اطفأت الحمى طفلتها الصغرى؛ كانت قبل ذلك قد ودعت أبناءها واحدا تلو الآخر. قتيلا وأسيرا ومفقودا.
نثرت على الطرقات خبز الميتين وأهرقت ماء الشجن، غابت في لجة مرض أقعدها شهورا، وفي ليلة قمر النور طحنت الحمى جسدها، أنهضتها من فراش المرض، دفعتها بعزم غريب جعل أطرافها تتلوى وجسدها يراقص الهواء، رجلاها تنقران الأرض بخطوات رشيقة.
حاولت لجم أعضائها لكنها لم تستكن، ربطت نفسها إلى عمود ناتئ من جدار البيت، غير أن جنون الدم الفائر في عروقها ازداد، وتوحشت حمى الرقص في شرايينها. أوثقوها في غرفة نائية أقصى الدار، بقيت تهتز حتى تخلصت من الحبال وخرجت إلى زقاق البيت، ترقص وعيون الجيران تشهق دهشة غير مصدقة لما ترى، ألسنتهم تلوكها ثم تتفلها مرات ومرات.
في بادئ الأمر طافت في الأزقة الترابية للأحياء الفقيرة، تتبعها عيون الناس ووشوشاتهم، أوشكت بعض الفتيات أن ينضممن لها، لكن أيادي قوية كبلتهن وحبستهن بعيدا.
الجمع المتفرج يزيد، والهمس يعلو حتى يصير جهرا.
قدماها الرشيقتان لم تتوقفا، بل قادتاها إلى الشوارع العريضة وسط المدينة، تابعتها الجموع بوجوه شاحبة وعيون شاخصة، معظم المتفرجين كانوا يسخرون، يتهكمون، ويقذفون المرأة بما في أيديهم من بقايا طعام أو مناديل قذرة، لكن المرأة بقيت ناصعة الجبين؛ ساهمة النظرة، شاردة اللب، وترقص بلا توقف.
في قمر اليوم الثالث رقصت في وسط الساحة الكبرى للمدينة وحدث أن انضمت لها فتاة طويلة الشعر واسعة العينين ذابلة النظرات أهزلها الحزن وفقد المحبوب؛ شقت الجمع وخرجت ترقص غير آبهة بأصواتهم الناهرة، ولا بأياديهم الممتدة لمنعها.
في قمر الليل الرابع ركضت من بين الجمع امرأة ذابلة الخدين، مضمرة البطن و خلفها صغيرات ممزقات الثياب، انضممن جميعا للمرأتين، وأخذن يرقصن بحرارة جعلت الجمع المبهوت يصفق بيديه ويزفر بحنق.
مع كل ليل مقمر جديد، تنسل امرأة او اثنتان وتزيد قافلة الراقصات. أما أول رجل انضم لحمى الرقص فكان صيادا أفقده البحر ولديه في درب التهجير. تبعه شابان لهما عيون بلون الشفق، أما آخر المنضمين فكان الناجي الوحيد من الزلزال الكبير.
في ليلة القمر الأحمر تضاعف عدد الذين انضموا، صاروا حشدا آخر لأقدامه وقع صاعق حين يضرب الأرض محتفلا بانتشاء الرقص المحموم.
قافلة الراقصين تجوب الشوارع الهاجعة كل يوم ثم تقضي الليل في ساحة المدينة، وكل يوم تزيد وفدا جديدا.
قمر الليلة السابعة كشف عن سقوط امرأة ميتة وسط الساحة، وعندما اقترب منها الناس عرفوها، كانت المرأة التي بدأت حمى الرقص.
انضمت جموع أخرى للحلقة الراقصة، وصار حشدهم أكبر من حشد المتفرجين، وأخذوا يملأون شوارع المدينة وساحاتها،
ورغم كثرة الراقصين الذين يسقطون صرعى، ظل الحشد يكبر.
شاعت أخبار عن البلاد السعيدة التي يرقص فيها الناس حتى الموت.