الدين بين العنف والتطرف
قراءة في رواية جسد ضيق للكاتبة الدكتورة هويدا صالح
تنقلنا رواية جسد ضيق للكاتبة هويدا صالح عبر ازمنة وامكنة متعددة مختلفة يجمع بينها رابط خفي حرصت الكاتبة أن تمسك به واستطاعت بحنكة بالغة أن تشد أطراف حكايتها وتنفذ منها إلى عمق الصراع الانساني في مواجهة التحديات الكبرى في الحياة
العنوان:
جسد ضيق تركيب وصفي مؤلف من نكرتين مطلقتين واسعتي الدلالة جسد مبتدأ وقد.حذف خبره ؛ وتم التركيز وإبراز المعنى من خلال الصفة المشبهة ثابتة الدلالة. الجسد هو المقابل المادي للروح وهو كينونة الكاىنات المادية التي تعبر عن وجودها الحسي وتفاعلها مع عناصر الكون المختلفة وتتوسع دلالته لتاخذ بعدا تابويا عندما بتعلق الأمر بالدين او الجنس - الانسان مسؤول عن جسده وسيسأل عنه فيما أبلاه.
ضيق صفة ضد واسع وهي توصف للشيء ماديا خصوصا ثم معنويا بمستوى آخر . والضيق في دلالته المغايرة ؛ تعبير عن التوق إلى رحابة والخروج من ربقة محدودة لمكان او شيء.
والتركيب جسد ضيق يحمل تأويلات عديدة ربما تمتد وتتصاعد من جسد الانسان الى جسد الأسرة الى المجتمع الى الدين والطائفة وصولا إلى رحابة الانسانية .وهذا احد مقولات النص فالعنوان مناسب ومرهص ومشوق .
وجدير بالذكر أن الرواية نوعت في تناول علاقة الانسان بالجسد ابتداء من نفسه فردوس ودميانة ثم تعديا على الآخر بالزواج مجموعة علاقات الزواج الناجحة منها او الفاشلة (مثل زواج فردوس من برسوم ) او بالعلاقات خارج نطاق الطبيعة( برسوم نخلة وأخوه) أو شهوة العلاقة متمثلة بشخصية( الراهبة فيبي) التي تمثل المسافة بين تخيل العلاقة وتمني عيش العلاقة وصولا للنشوة لمجرد الكلام عنها .
مذهب/نوع القصة الأدبي:
واقعية تاريخية بنسبة ما تحمل سرد عجائبي في بعض مراحلها وهو سرد مرتبط بالمعجزات الدينية خصوصا المسيحية واستحضار القديسين و العذراء والسيد المسيح.
فضاء القصة الزمكاني:
أ- الفضاء المكاني: رسمت الكاتبة المناطق النائية بصرياً في جنوب مصر حيث يتركز الأقباط ويحصل تماس او اندماج مع المسلمين ؛ فقد بنت الكانبة عالماً مادياً محسوسا نكاد نشعر بمفرداته يبدأ من ديروط او ديرمواس ولاينتهي في اسمو العروس او درب النصارى او حتى دير السيدة العذراء ببراري بلقاس حيث اختارت فردوس أن تدخل في الرهبنة.
يوجد حشد هائل من الأمكنة اسما او ذكرا او وصفا ...او فضاء تدور به أحداث الرواية وهذا التنوع فرضه طبيعة السرد التي اختارته الكاتبة من حيث اقتصاص شريحة او مقطع عرضي في جسد المجتمع المصري في ثلاثينيات أو أربعينات القرن الماضي رغم عدم وجود مايشير بشكل صريح للزمن .
وربما هذا آت ايضا من تنوع الشخصيات الكبير وتداخلها مع شبكة هائلة من الأحداث التي تكشف جانبا هاما من التعايش المتذبذب الذي شهده المجتمع المصري و ركزت عليه الكاتبة بؤرة عدستها من خلال أزمة فئة دينية تعتبر مواطنتها فئة ثانية في مجتمع توجد فيه بكثرة فتتراوح العلاقات في جدلية مربكة بين المكان والشخصيات .
الدلالات الاجتماعية-السياسية في القصة:
أسوأ أشكال التعايش من وجهة نظر الكاتبة هو مايقوم على القمع او العنف رغم عدم وجود مظاهر عنف حقيقية لكن إشكالية الجسد تفرض نفسها بقوة في القصة من أولها إلى اختتامها بحسب ما تبين لي هو الحكم الديني وسيطرة رجال الدين متطرفين كانوا أو صوفيين او رهبان هي معادلة صعبة أي تراوح الدين بين العنف المبطن بقهر الرغبات ( الرهبنة ) والروحانية العالية متمثلة بالحضرة الصوفية النورانية عند المسلمين أو البتولية عند المسيحين. وكلاهما مستمدان من سلطة قوانين مصوغة بأساليب لا تقبل التأويل وتعدد المعاني. صيغت على مدى زمني تراكمي طويل من الموروث الديني الذي أصبح تحت ربقة الطقوس والعادات ونحا نحو التطرف والعنف في كثير من مراحله .
الشخصيات ورمزيتها:
نستطيع اعتبار أن البطولة جماعية لأن الآلية المتبعة هي اقتطاع شريحة معينة في زمان ومكان محددين لتسليط الضوء على تفاعل الشخصيات مع العنف المستتر باسم الدين وقهر الانسانية التي( تبكي وحيدة كقبرة) على حد تعبير الكاتبة نفسها .
رسم الشخصية كان داخليا عميقا يعتمد على البناء النفسي المعقد والمركب ...
الأحداث تستغرق الشخصيات في لحظات منتقاة بدقة للسرد
تبدو شخصيات فردوس دميانة سارة تمثل المثلث النسوي المتراوح بين القسوة والسيطرة والتحكم وبين التمرد الذي مثلته فردوس ببحثها المضني عن الحقيقة للخروج من ضيق الفكر الديني والسلوك القامع إلى رحابة الفكر الانساني المتمثل في اللجوء إلى مؤسسات قانونية مدنية تعمل على مواجهة التطرف والقهر الإنساني بكل أشكاله . وتبدى ذلك في الخاتمة من خلال تبرعها بجمعيتها الخيرية لجهة مجتمعية وليس دينية كي لاتكرس عنف التجربة التي مرت بها ومرارتها .
شخصية فردوس بؤرة الحدث ومحوره تم تقديمها على مستويين:
المستوى الشخصي من خلال السرد الذاتي
المستوى الاجتماعي من خلال الشهادات ممن حولها أصدقاؤها وصديقاتها وشهادة الراهب والراهبة لها ...
الشخصيات الذكورية تمثلت في مثلث مقابل للشخصيات الانثوية
الشيخ صالح الحكيم باشا يوسف. حنا
وهي شخصيات تمثل انماطا مختلفة من المجتمع موجودة في كل وقت ومكان وفي كل مجتمع وتتعاورها نفس الرغبات والمشاعر والأحلام ولكن تقف حائرة عاجزة تتخبط.أمام تابوهات الدين . وتتضاءل فرص حريتها أمام تسلط جبروت رجال الدين في حدود رسموها وفرضوها وليس من السهل تجاوزها او تحديها مطلقا.
شخصيات الرجال وخصوصا الآباء تبدو زاهية مشرقة حنونة على غير ما هو متعارف عليه في ثيمات الجندرية الاجتماعية ؛ بينما تقدم المرأة بصفات قسوة وغموض وسلبية (سارة ودميانة)
و الشخصيات كلها تبدو معذبة تنحو للخروج من ضيق الجسد الكوني إلى رحابة الروح الإلهية المفعمة بالمحبة
المثير في الرواية تعمق الكاتبة في طقوس وتفاصيل الديانة المسيحية رغم كونها مسلمة ممايدل على طول معاشرة ودقة ملاحظة وثقافة أصيلة تمكنت من ايهام القارئ واقناعه والوصول به إلى قناعة
بأن الآلام هي ذاتها والمحبة هي هي في كل نفوس الناس وهذا من وحدة النفس البشرية على اختلاف الأعراق والأديان والطوائف .والحب لايعرف مكانا سوى النفوس الخالصة البياض والتي ترتقي في معارج الحضرة الكونية سواء كان راعيها مارجرجس أو الخضر او العذراء أم النور أو أقطاب الحضرة الصوفية .
ٱليات البناء الفني (سرد-وصف، حوار) والتقنيات الأدبية المستخدمة:
خرجت الكاتبة عن الأشكال والأقنعة الفنية الشائعة في النمط البنائي للمبنى الحكائي ، بالأخص في ناحية الخط الزمني حيث استخدمت الزمن المتكسر غير المتسلسل او المستغرق بالحدث لكن ما يربك هو استخدام الكانبة لتعدد الأصوات السردية بين الراوي العليم الذي كان ناضجا وموفقا في بداية السرد ثم نفاجئ بالانتقال إلى الراوي العليم عندما تحدثت فردوس عن نفسها أو عندما تحدث أصدقاؤها عن قصة حبها وكأنهم يدلون بشهادات في محكمة ثم يعود الراوي العليم ليكمل باقي السرد ولو أن الكاتبة استمرت في استخدام الراوي الذاتي على لسان فردوس لبقي الأمر مقبولا بل وجيدا ..لكن العودة إلى السارد العليم في النصف الثاني من الرواية إلى آخرها يدفع للتساؤل ..هل هي تجربة للبوليفونية ؟
البناء السردي كان محكما حيث استخدمت الكاتبة الحبكة المفككة التي تناسب تعدد الشخصيات وتنوع محاور العمل الروائي .
اللغة تنوعت بين الشاعرية و الصحفية الاخبارية التي تناسب الصبغة الوثائقية خصوصا في التصف الثاني من الرواية ويجدر بالذكر أن القسم المسرود بطريقة تقريرية مباشرة كان يمكن تقديمه بحيل سردية مختلفة .
النهاية التي اختارتها الكاتبة بخروج فردوس من الدير يمثل خروجا من ضيق الفكر المهيمن عليه دينيا إلى فضاء آخر تمثل بالعمل في الشأن الإنساني ومساعدة الناس الواقعين ضحايا لعنف المجتمع المركب دينيا وسياسيا .وبذلك تتضح مقولة الكاتبة أن الخروج من الجسد الضيق للفكر المنغلق يكون في التوجه إلى الإنسان المعذب جسدا وروحا وإعادة بث الحياة فيه عن طريق مؤسسات متخصصة بعيدا عن أي صبغة دينية .
الرواية مثيرة وإشكالية ومحفزة وتستحق القراءة والبحث والتأمل .