يبدو أننا والله أعلم أمام بركان مقزز من براكين الشذوذ والضياع والأمراض المجتمعية بدأت بوادره تهل علينا وأوشك أن ينفجر في حياتنا، أو أنه انفجر فعلا ولكننا لا ندري ولا نعرف ولا نطلع، لأن الناس تخاف الفضح والسمعة والتشهير بالمعايب.
فما أن مرت قصة الطفل ياسين المحبطة، التي انتصر لها القضاء مؤخرا، حتى ظهرت مأساة الطفلة مريم التي تم اغتصابها على يد غفر مجرم ساقط متوحش نذل.
طالعتنا أنباء السوشيال ميديا اليوم بأحداث قصة مأسوية جددة للطفلة مريم التي انتهك عرضها ذئب جديد في شبين القناطر، غفير تابع لشركة مقاولات تبني وحدة صحية بالمكان، استدرج الفتاة الصغيرة واعتدى عليها ووالدها مريض مصاب بجلطة وطريح الفراش في البيت، ظل المجرم يمارس معها المنكر لمدة عشرة أيام، وكان يهددها بالسكين والطبنجة لمنعها من إبلاغ أسرتها، وتم اكتشاف فقدان عذرية الطفلة عبر طبيب خاص.
الناس اليوم تصرخ وتصيح من الفرحة والتعبير عن شعورهم بالارتياح، ورأيتهم يزغردون ويهللون بعد سماع حكم المؤبد على النطع الغشوم والشيخ الزاني الذي اعتدى على الطفل ياسين، ويظن الناس أن الحل في القضاء والحكم المشدد والعقاب القاسي، ولا يدرون أن القضاء مهما كانت روادعه شديدة عنيفة، فإنه لن يحل المشكلة ولن يوفر أمنا.
فرحة الناس بالحكم القضائي الذي صدر، وانتشار مثل هذه المشكلات يوما بعد يوم، جعلني أتساءل هل نحن بحاجة إلى القانون أم إلى الدين، القانون يعني العقاب والتخويف، فهو يعالج المشكلة من آخرها، أما الدين فيعني الضمير والتفكير والمانع، أي أنه يحجب المشكلة من أولها، وإذا غاب الضمير واستحكمت الشهوة بالإنسان، فإنه سيصير أعمى عن أي عقاب، وهي فلسفة عجيبة في طبيعة الانسان، فقد كنت أقيم في المملكة العربية السعودية، وكان العقاب فيها رادعا لحد الحرابة، ولمثل مدمني هذه النجاسات، وكان ضرب الرقاب بالسيف على الملأ، وهو العقاب الشديد الذي يشهده الجميع مأخوذين مفزوعين، وكنت أتعجب لهؤلاء المجرمين الذين يشهدون هذا العقاب ولا يرتدعون، وكان أغلبهم من جنسيات غريبة عن المملكة، كانوا يشاهدون هذا العقاب الشديد الذي لا يرحم، ومع هذا لا يمتنعون عن فعل الجريمة، بل كان ما يثير العجب فيهم، أنهم كانوا يعلمون أن السلطات السعودية الأمنية لن تغلب في العثور على فاعل الجريمة، وفعلا لدى المملكة السعودية أجهزة أمنية خارقة في اكتشاف الفاعل والجاني، وما سمعت يوما أن مجرما أفلت من قبضة الأمن السعودي، إنها تعمل بأحدث التقنيات في كشف الجريمة، حتى مزح أحدهم لي يوما وقال: الأمن السعودي يتعامل مع الجن والحواة لمعرفة المجرمين والجاني.
من خلال هذه الصورة عرفت وآمنت أن الحل ليس في القضاء الذي يهلل له الناس، ويظنون أن المشكلة قد انحلت، وإنما الحل الأكبر والقاطع في الدين الغائب الذي يهذب النفس ويخلق الضمير، ويوقظ الرحمة ويحول الحياة إلى سكينة ومودة وتآلف بدلا من هذه الغابة الموحشة التي ترمينا كل يوم بمثل هذه الأقذار الغريبة.
القضاء مشكورا لم يقصر أبدا في الحكم، هو فقط يطلب أن تحل القضية على بابه وليس للناس شأن بعد ذلك فالقضاة يعرفون ما يجب فعلة من تأديب الجناة.
ولكن مهما كان القضاء حاكما وفاصلا فلن يحل المشكلة، لأنها تبدأ من المسجد والمدرسة والشارع والجامعة.. كل هذه الأندية إن غاب عنها الدين فلا قيمة تحققها أبدا في نفع المجتمع، وسوف تترك الإنسان لوحشيته وهمجيته وبربريته وشذوذه المقرف الذي يفجع به الأسر والعائلات في أبنائهم وبناتهم.!
التحرك يا سادة يبدأ من الدين، وتمكين جذوره في المجتمع وروافد الحياة، وإذا لم يكن هناك دين فلن تكون هناك حياة.
ودعوني أقولها بصراحة إن الدولة حينما تترك فصائل الفجرة المردة والملاحدة والعلمانيين الوقحين واليساريين الجاحدين يعيبون ديننا ويهدمون ثوابته ويطعنون في قيمه كل يوم ليشككوا الناس في الايمان به، هو عمل خطير يزلزل أركان المجتمع، وينبت مثل هذه القاذورات التي نئن منها اليوم ونظن أن القضاء والعقاب هو الحل.
يا سادة التمسك بالدين هو الحل الرادع.
والدين الذي أقصده ليس الذي نعرفه من مظاهر التدين وإقامة الشرائع والأحكام، ولكنني أعني التربية بالدين لصنع المجتمع الراشد والإنسان الفاضل، حتى لا يتفلسف أحدهم ويقول أعرف شيوخا يفعلون المنكرات أو دولة تقيم الحدود وفيها مثل هذه الموبقات...
ألا يتق الله أولئك الحمقى الذين ينعتون أنفسهم بأنهم دعاة إلى الله، وهم يرون المشهد المنذر بالخطر، ولا شغلة لهم هم إلا بإثارة المعارك العنيفة انتصارا للأشعرية والسلفية، وتأويل الصفات أم أخذها كما هي عليه.. التصوف هو الحق وغيره هو الباطل، السلفية هي الفرقة الناجية وهم أهل السنة وحدهم دون غيرهم.. ألا يتركون كل هذا الهراء وينشغلون بهداية الناس حتى نمنع هذا البركان الذي تلوح لنا ألسنته موشكا أن يلتهمنا.
سمعت من مولانا الدكتور محمود عمارة يوما يقول: سئل حكيم: أيهما أنفع للأمة القوة أم القوت أم القيم؟
فكان جوابه القيم هي الأنفع لأنها لو وجدت لوجد القوت ووجدت القوة.