رؤية الأديبة ﻋﺒﻴﺮ عزاوي في رواية الحديقة المحرمة للدكتورة سهير المصادفة
الفكرة :
تنقلنا سهير المصادفة عبر سردها المتقن لتوصلنا إلى فكر فلسفية عميقة وأسئلة وجودية كبرى مطروحة من عهد طوفان نوح ..بسؤال تردد على لسان ألهم أكثر من مرة ماذا كان ينقص سفينة نوح
تبني الكاتبة نصها على عالمين متوازيين عالم واقعي شديد الفوص في حيثيات الشعبي والموروث والحكايةوالخرافة والعلاقات الاجتماعية الازلية في بنى فكرية كبرى الحب ، الدين ، القتل، الغدر .
وعالم آخر غرائبي تحكمه علاقات الحرية او ما نستنتج في نهايةالامر أنه وهم الحرية التي يحاول الانسان الهروب إليها عبر مخيلته لتكون جنته الموعودة لكنه لايلبث بعد قليل ان يحطمها ويعيد تكرار أخطائه الابدية فيها فيقتل ويرتكب الفواحش ويلوث البراءةويدنس النبع المقدس الذي من المفروض ان يكون سرة الكون و منبع طهره ونقائه .
ثم ينفتح العالمان على بعضهما بخيبات كبرى وعودة تشبه ظهور المهدي المنتظر لكنها لن تحقق عدلا ولن تعيد الأمور لنصابها فتترك الكاتبة النهاية مفتوحة لمخيلة القارئ لتعود حلقة الصراع من جديد في عود ازلي قدر للإنسان ان يعيشه ويعاينه ويكوى بناره ويتنعم بنعيمه وجحيمه .
الحب لعنة أزلية تغير القوانين وتقلب الموازين وتعيد كتابة القدر لكنها عند الكاتبة تحتاج ثمنا باهضا لايقل عن كينونة ووجود .
يتعانق الحكائي والموروث والخيال الغرائبي والرمز العميق سياسيا و اجتماعيا ليكون أعمدة البناء الهرمي المتداخل الذي شكل جسد الرواية وقاد القارئ بنعومة وسلاسة واقناع ليضعه وجها لوجه أمام حقيقته الوجودية التي اتسمت منذ الأزل بالغدر والانانية والنفعية ..في تكرار لقصة قابيل وهابيل مع عكس الأدوار ليصبح القاتل مقتولا بوزره والبريء قاتلا ملعونا بتيهه .
تعدد الأصوات في الرواية :
الرواية البوليفونية أو الرواية متعددة الأصوات هي أحد أشكال الرواية الحديثة والتي يختلف فيها السرد القصصي عن غيرها، حيثُ تعدُّ أبرز سمات الرواية متعددة الأصوات أنَّها تفسر الواقع حسب وجهات نظر عديدة متراكبة في ذات الوقت، فلا تقتصر الرواية متعددة الأصوات على طرح وجهة نظر واحدة، فمن خلال تعدد شخصيات الرواية والحوارات التي تدور فيما بينها يتمُّ طرح مختلف وجهات النظر، وتختلف فيها الرؤى الأيديولوجية أيضًا، لذلك فهي رواية تعددية حوارية تأخذ المنحى الديموقراطي في طرح الأفكار، وتتحرر من السلطة التي كان يفرضها الراوي سابقًا، وتبتعد عن المنظور الأحادي في الإسلوب واللغة واللهجة ومستوى الوعي، فيصبح الواقع داخلها بالغ التعقيد
ورواية الحديقة المحرمة رواية بوليفونية بامتياز فهي تعتمد التعددية الرؤى والسرد متعدد الأصوات واعتمدت فيها الكاتبة على خطوط تأسيس متنوعة متداخلة متراكبة تطرح مستويات مركبة معقدة من الصراع بين داخلي وخارجي وواقعي ومتخيل وذاتي واجتماعي وانساني وحياتي معاش وفلسفي وجودي
وفيها تتحقق مقومات الرواية البوليفونية تتميَّز الرواية البوليفونية و الميزات الفنية والجمالية والدلالية التي تميزها عن غيرها ، وساستعرض هنا أهم المقومات التي تم استخدامها بمهارة وحنكة وقدرة فذة من الكاتبة:
1. تعدد الأفكار المطروحة فيها:
فالرواية تطرح أفكاراً مختلفة متعددة، صلبها يعتمد على سؤال مهم ماهو مدى حرية الإنسان في تحديد مسار حياته ؟!
وكيف يمكن للإنسان مواجهة واقعه المعقد ؟! وأفكار ومعتقدات مجتمعه الصارمة دون ان يدفع اثمانا باهضة؟
كيف يتحول الإنسان من عاشق مستعد لوهب حياته للمحبوبة إلى قاتل وآثم ؟!
وتطرح نسبية الأخلاق وتراجعها أمام النفعية .
ومسألة الحاكمية وما تنطوي عليه من صراعات تنهار فيها القيم .وتتوارى الضمائر
ما يجعل من الرواية إطروحة ديمقراطية وحوارية بامتياز تقوم على أفكار متعددة ومواقف مختلفة ووجهات نظر عديدة، بالإضافة إلى اختلاف في المنظورات الإيديولوجية.
تعدد الأصوات أو الشخصيات: حيث تحتوي هذه الرواية على مجموعة من الأصوات والشخصيات التي يدور فيما بينها صراع إيديولوجي وفكري،
شخصية ألهم البطل الذي يمثل عالم التوق إلى المثاليات وتدور حكايته في ارض النبع المقدس ويقدم رؤية خاصة به تعتمد على بنيته العقلية المتحررة من قيود المجتمع والتي تبحث عن فضاء آخر تعكس فيه كينونتها المتحررة فتجده عند مريم أولا في عالمها الواقعي ثم تمثله جميلة في عالمها الموازي لكن تتبدى فيما بعد.سمة الثورية في ميلها أخيرا للبيبة وقبلها المغامرة الجريئة مع تمرة ...
تعود قصة الأخوين قابيل وهابيل لتمثل ايدولوجية جديدة تطرحها الكاتبة بسمات معاصرة خلاصتها أن الانسان هو نفسه في كل زمان ومكان من حيث الأنانية والغيرة والميل إلى المكائد والدسائس وهذه الاوتار التي يلعب عليها السلطان ليضمن بقاء اللعبة بيديه لأطول فترة ممكنة وليستلم للخيوط من بعده من يجيد حبك هذه المؤامرات والسير فيها حتى النهاية .
وتقابله وحيدة المحامية الشابة التي حملتها الكاتبة عبء النهوض بالجانب الصعب من الحياة فهي التي ترث تبعات خطيئة أمها وأبيها ورغم أنها ترث في نهاية الأمر أملاك عائلتيها ..لكنها في الوقت نفسه ترث قدر والدها و يحكم عليها بدفع ثمن أخطاء غيرها لمجرد أنها ولدت في عالم يسوده صراع ايدلوجي ديني مذهبي واجتماعي طبقي .
وظهرت شخصيات ثانوية كثيرة مثلت كل منها عالما مستقلا بذاته متداخلا مع العالم الروائي الذي بنته الكاتبة ليشكل سيمفونية هارمونية بديعة حيثُ ظهرت الشخصيات مستقلة عن الكاتب ولها كامل الحرية في التعبير عن أفكارها وعوالمها.فتظهر كوجهات نظر اتجاه العالن او كأقنعة رمزية تمثل رؤي ايدولوجية تتسم بالحرية النسبية والاستقلالية وتواري صوت الكاتب .
تعدد مستويات وأنماط الوعي:
حيثُ تمتلك الشخصيات فيها مستويات وعي متفاوتة، وخصوصًا الوعي الأيديولوجي، فيتعدد الوعي بين زائف وواقعي وممكن ومستحيل والذي يحمل تصوُّرًا مستقبليًّا يطمح لواقع أفضل وغيرها، فكان وعي الشخصيات سلبيًا أو إيجابيًا، وقد ظهر اختلاف الوعي نتيجة اختلاف مصادر الثقافة والتأثر بالعالم المحيط فمن عبد القادر الذي يمثل الأرضية الواقعية لشخصية ألهم والامتداد الفكري لهيمنة النفعية على العلاقات الانسانية الى شخصية بطرس التي تمثل وعيا محددا بعامل البقاء وشخصية سلطان ولبيبة ودورا ... شخصيات يمثل كل منها وعياً انسانياً مختلف الرؤية والهدف والقاعدة .وكذلك شخصية مريم الغائبة الحاضرة ..
تعدد منظورات السرد:
حيثُ تتعدد المنظورات بالانتقال من شخص لآخر، وتتعدد الضمائر المستخدمة، فقد وظفت الكاتبة راويين أساسيين ، من أجل خلق عالمين متوازيين متسامتين يسيران في بعض أجزاء الرواية جنبا إلى جنب وينفتحان أحيانا أخرى على بعضهما يقتربان حينا ويبتعدان حينا ويتفاعلان ليشكلا رواية بوليفونية حقيقية.
ومن مقوماتها:
- البناء المركب:
يقترن البناء المركب بظاهرة الأجناس التعبيرية المتخللة، ويعني هذا أن الرواية قد تتخلها أجناس أدبية صغرى أو كبرى، كالحكاية الشعبية، أو الخرافة،وقد استندت الكاتبة على عدة حكايات شعبية شائعة في محيطها أو الأسطورة،أسطورة النبع المقدس أو الجنة الموعودة أو البعد الثالث و الأمثال، أو الشعر حيث ورد في أكثر من موضع ، أو الرحلة، أو الرسالة ..وغيرها.
و يستند البناء في الرواية البوليفونية إلى دمج العناصر المتناقضة والمتنافرة جدليا داخل إطار سردي متكامل ذي وحدة موضوعية وعضوية. ويعني هذا أنه لابد من إيجاد تعددية سردية وفنية لتركيب العمل الروائي، وكذلك تركيب السرد نفسه – سواء قدم هذا السرد بواسطة المؤلف أو بواسطة الراوي أو بواسطة إحدى الشخصيات-
ويعني هذا أن جنس الرواية بالمفهوم البوليفوني يحوي مجموعة من الأجناس والأنواع والأنماط الفرعية التي تتخلل الجنس الرئيس تعضيدا وتركيبا وتأليفا وإنشاء وشعرية. وللتوضيح أكثر، كأن تتضمن الرواية قصائد شعرية، وأهازيج ، وموشحات، وحكايات، وأساطير، ونصوصا وصفية، وقصاصات الصحف، ومسرحيات، ولقطات سينمائية، ولوحات تشكيلية، ومقاطع نقدية، وخطبا، ورسائل، وطلاسم السحر والشعوذة، والمقالة، والتاريخ وغيرها
وقد حملت رواية الحديقة المحرمة كل تلك البنى والتقنيات ودمجت بينها فكريا وسرديا .
- فضاء العتبة:
من المعلوم أن فضاء العتبة في الرواية البوليفونية هو فضاء الصدمات والأزمات والمشاكل العضوية والنفسية. بمعنى أن الأماكن التي يعيش فيها البطل أو التي ينتقل عبرها هي أماكن صادمة منغلقة خارجة من فضاء الزمان والمكان او هي برزخية بين عالمين متوازيين واقعي وعحائبي يتداخلان بينهما بينما يقف البطل متأرجحا بين العالمين فاقدا قطعية الانتماء إلى احدهما ملفوظا من العالمين مفروضا عليهما بحكم علاقات غير قابلة للفصم
وبظهر جليا ذلك في بحث ألهم عن الممر ووقوفه عنده واخفائه لجثة جميلة فيه ....وكذلك دخوله للحديقة المحرمةاو الجنة الموعودة ووقوفه بينها وبين عالم النبع المقدس في تراتبية مقصودة للعوالم المتواشجة المعقدة التي تحمل كل منها قوانينها الخاصة ويقف البطل دائما منها موقف المعارض .
وبتعبير آخر، ففضاء العتبة هو فضاء الكوارث التي تعصف بالإنسان المقهور داخل مجتمع محبط ، تتأرجح فيه القيم الأصيلة، وتهيمن عليه العلاقات النفعية، حيث تتحول القيم المعنوية أو الكيفية إلى قيم مادية واستعمالية قائمة على الغرضية والمنفعة والتبادل. هو عالم العتبات الوسيطة التي تفصل الداخل عن الخارج. وقد بدا ذلك جليا في عالم الأسرتين أسرة ألهم وأسرة غبريال المتجاورتين واللتين تتشابك مصائر أفرادهما بتأثير حدث يفترض أنه أعتيادي في الحياة والمجتمعات المتعددة الأطياف والمستويات الفكرية والمادية والدينية. وترتبط بهذه الفضاءات أزمات خانقة تؤثر سلبا على حياة البطل، وتشكل موقفه الإيديولوجي من العالم، وتحدد مصيره في ضوء مصائر الآخرين الذين يعيشون معه في نفس العالم المحيط به.أما الزمان الذي يندغم فيه ذلك البطل المقهور، فهو زمن مشحون بالتوتر والقلق والسأم والتأزم والصراع التراجيدي. وهنا، نتحدث عن بطل يمثل الشخصية النامية وهي شخصية قلقة وناقمة ومتحررة من السلطة الأبوية للمجتمع تبني عالمها الخاص . وبالتالي، فهي غير منجزة حدثيا، وغير مستقرة في حياتها. ، كما أنها تتفاعل مع الزمن التأريخي المستمر نسبيا. أأي الزمن الروائي بمعنى الكلمة.إنه يقفز من خلاله، إنه يركز الحدث في نقاط الأزمات، والانعطافات، والكوارث، حيث تصبح اللحظة معادلة من حيث قيمتها الداخلية حيث تفقد حدودها الزمانية.كذلك، إنه يقفز، في الحقيقة، عبر المسافة، ويركز الحدث فقط في نقطتين اثنتين: على العتبة وحيث تقع الأزمة والانعطاف. وهكذا يتأرجح فضاء العتبة بين الداخل والخارج وبين المغلق والمنفتح ويظهر جليا تمزق الشخصيات وتشتتها بين العالمين
الفضاء الكرنفالي:
وقد تمَّ توظيف هذا الفضاء في الرواية حيثُ يقوم على التشويه والتقبح والجمع بين المتناقضات والتنقل بين الجد والهزل والسخرية والإكثار من النقد والاعتماد على الرموز والأقنعة والدلالات والتحرر من القواعد الرسمية والقوانين والأعراف والانتقال من التراجيديا إلى الكوميديا أو العكس .ويرتبط مكانيا بالشعبي العمومي حيث تتجمع المتناقضاتالاجتماعية السامي والسافل والغني والفقير والراقي والمنحط ..كما ترتبط بالطقوس والشعائر والأسرار
فيتميز بالغرابة والشذوذ والفانتازيا والاحتفال والحميمية والانفتاح والجدلية والتنكر والمجون .
خاتمة :
مماسبق نرى أن رواية الحديقة المحرمة تمثل لامتياز رواية بوليفونية قائمة على تعدد الخطابات والشخصيات والأصوات وقد عبرت بكل حرية عن وجهات نظر متباينة مؤسسة على التجريب والمنظور البوليفوني الحداثي فكرة ومنظورا وسردا .