هرول مسرعاً يضع يده على أنفه خارجاً من دورات المياه التي تفوح منها روائح النشادر الواخزة تكاد تفتك بما تبقى من وعي في رأسه ، اصطدم كتفه بكتف رجل ضخم الجثة، ألقى نظرة سريعة على وحهه معتذراً بكلمات مقتضبة ومضى دون أن يلتفت، لكن الرجل توقف طويلاً يتأمله وهو يوليه ظهره ويبتعد عائداً الى بسطة الكتب حيث مكانه المعتاد تحت الجسر، بسطته التي لازمها منذ ست سنوات، جاء فجأة من حيث لايعرف أحد، وضع عدة كتيبات بادئ الأمر ثم أخذت الكتب تزداد شيئاً فشيئا وتكبر البسطة لتصبح أكبر وأشهر بسطة في دمشق كلّها، على يساره ويمينه بسطات متنوعة المحتوى ألعاب، أحذية بيتية رديئة النوعية؛ ألعاب أطفال رخيصة الثمن ، عطورات، سبحات ، ملايس داخلية سيئة الاقمشة، بعض البسطات للكتب أيضاً لكن بسطته هي الأهم، يقصدها المثقفون، وأنصاف المثقفين، والعتالون كما يسميهم ويقصد بهم الذين يحملون الكتب متباهين بها دون ان يفكّوا منها حرفاً.
كذلك يقصد بسطته طلبة الجامعة، وطلاب المدارس الذين يستخفُّ بهم الطرب إلى عالم الكتب في بدايات تفتحهم على أسرار الأدب، هم قليلون بكل الأحوال، و غالباً مايكونون عشاقاً حديثي العهد فيحلو لهم أن يبدوا أمام حبيباته مثيرين للإعجاب .مميزين ونادري المثال ، وكذلك هي مقصد فتيات فشلن في قصص حبهن أو تعثرن في دراستهن فقادتهن بعض اقتباسات منشورات الفيسبوك أو عبارات ال( ستوري) الرنانة التي يستخدمها معارفهن ويذيلونها بأسماء الأدباء المشهورين مثل ديستوفسكي وكافكا و محمد الماغوط وغيرهم ليبحثن عن مؤلفات هؤلاء الكتّاب الورقية بعد أن يمنين بالفشل في البحث عنها على مواقع التواصل أو عند العم غوغل .
كذلك للبسطة روادوها الدائمون الذين يمرون عليها يومياً، وهؤلاء حفظهم عن ظهر قلب، يؤمن لهم ما يوصونه عليه من كتب محددة قد تكون غالية الثمن لأنها أصلية لكنهم يدفعون بطيب خاطر ، أما الزبائن العاديون فهو ماهر بالتعامل معهم، يعرف طلب الزبون بمجرد أن ينظر نظرة واحدة إلى تقاسيم وجهه بل يكاد يعرف حتى المبلغ الذي بحوزته و السعر الذي سيفاصل عليه ، هي خبرة اكتسبها خلال السنوات القليلة التي أمضاها في العمل، رغم أنه لم يمتهن هذه المهنة من قبل، بل وهذا سرّ لم يبح به لأحد هو لم يفتح كتاباً ولا قرأ حرفاً من مؤلفات المشاهير الذين يطنطن بأسمائهم طوال يومه ، يشرح، ويفصّل و يتوسع في شرح مسهب لكل زبون عن طلبه، يمدّه بمعلومات حول الكاتب والكتاب المطلوب ، وربما زاد في الأمر، فيقدم له نصائح تجعله يغير رأيه ويستبدل الكتب التي جاء بطلبها بكتب أخرى في مجال مختلف تماما.
هزّه صوت أبي نديم جاره صاحب عربة الشاي والمشروبات الساخنة وهو يهيء طاولة صغيرة مسودة وأربع كراس خشبية مشغولة بالخيزران ، وهو يعدها لجلسة الشاي اليومية المعتادة، يحضر كذلك طاولة الزهر متحدياً محمود السندان معقب المعاملات الذي ينهي جولاته المكوكية بين الوزارات والمديريات ويحطّ الرحل عندهم آخر النهار قبل أن يستقل السرفيس عائدا إلى بيته في قدسيا على أطراف دمشق.
اكتمل العقد بوصول طاهر شيبوب الممرض المتقاعد الذي تابع عمله كممرض متجول يطلبه الناس إلى بيوتهم عند الحاجة لزرق إبرة او تعليق محلول أو معالجة ارتفاع حرارة أوسحب دم كعينة للتحليل، أو قياس ضغط الدم، وربما تعدّى الأمر ذلك كإجراء قطبة أو اثنتين لضرورات الإسعاف، لتوفير المبالغ الطائلة التي صارت تكلفها هذه العمليات البسيطة هذه الأيام .
حين اكتمل نصاب الجلسة فتح أبو نديم الطاولة و جلجلت ضحكته:
- اليوم راح تاكل أحلى خسارة يا سندان .
- لا تحكي عن الخسارة أنت آخر واحد يحكي عن اللعب ، خسارتك الأخيرة كانت مشهودة وبحضور كل هذه الوجوه الطيبة . ويشير بيده إلى الرجال الثلاثة .
تهاوى على مقعده جالساً، تحفّ به ضحكات الرفاق وخرخرات صدورهم وما إن استوى على المقعد والتقط أنفاسه، حتى كان الرجل الذي اصطدم به واقفاً أمامهم كالتمثال، مبهوتاً يحدق فيه، يفتح عينيه ويغلقهما ويفركهما بيديه الاثنتين .
ثم بصوت جهوري يهتف :
-" أبو عبدو ،والله أنت أبو عبدو ، أنت هو ، بذات نفسه ."
ارتعد قلبه و أشاح بوجهه عن الرجل الذي يقترب ويدور حوله ثم يخاطبه :
-" أين كنت يا سيدي ، أين اختفيت كل هذه السنوات؟!
تمتم الرجل الذي باغته تدفق الكلمات :
-" من سيدك يا رجل، من أنت؟!
-" أنا؟! ألم تعرفني ؟
أحقاً لم تعرفني، انظر إليّ جيداً
أنا أبو ملّوك ،ألا تذكرني ،كنت أعمل عندك ، بالله عليك ألا تذكر شكلي ولا لقبي ."
-" ابتعد يا رجل ، ماذا تعني تعمل عندي ؟!
-" أعمل عندك يا سيدي، والله العظيم كنت عاملاً من عمالك، ربما لم تكن تلتفت إلي لتفاهتي ،أما أنا فأعرفك كما أعرف نفسي، أنت رب عملي، سيدي، وليّ نعمتي،
كنت كريما حين بخل الناس وعطوفا حين قست القلوب ."
واخذ يداري دمعتين تتهيأان لتنفرا من عينيه.
- "يا رجل ! أنت تشبّه علي، هيا هيا اذهب من هنا."
العيون المعلقة بالرجل تفحصته جيداً ؛ رجل فارع الطول سمح الوجه يبدو عليه الثراء لولا ساعة يده الباهضة الثمن بإفراط و التي تشي بحداثة نعمته .
اقترب الرجل الغريب يتملى بوجه مقابله وهذا يشيح بوجهه هارباً من إلحاح نظراته التي تحاول تمزيق الحجب من حوله وهو يؤكد:
-"أبو عبدو ؛ أشهر تاجر قطع غيار سيارات في حلب والشمال كلّه أنت صاحب معمل البطاريات الذي كنت أنا حارسه.
أبو عبدو البطش، الكبير، المعلم، وحش السوق، الامبريالي...... هذه ألقابك التي كنا نطلقها عليك، لقد انقطعت أخبارك بعد حريق المعمل و احتراق اثنين من أولادك وهما يحاولان إخماد النار ...
-"ايييييه ، أيام ، أحقاً لم تعرفوا سبب الحريق ؟ هل كانت قذائف موجهة أم عملاً مقصوداً ؟
قال البعض أنه ماس كهربائي " .
كانت كلماته تتحدر بسرعة وتواتر لاتسمح لأي شيء أن يوقفها
فجأة توقف عن إطلاق رشاش كلماته وصوّب نظره إلى وجه أبي عبدو المربدّ وقذف سؤاله :
-"لكن ما الذي تفعله هنا ؟
خيم وجوم ثقيل على الجميع؛
نهض الممرض خفض رأسه وتمتم معتذرا وأسرع ليلحق بسرفيس تهادى قرب الجمع .
محمود السندان نفض من على كتفيه غباراً لا مرئياً، تنحنح وانسل من الجوار .
أبو نديم بدأ يحمع أكواب الشاي التي لم تمسّ و راح يتشاغل بتنظيفها، بينما انسحب الامبريالي يجرجر رجليه عائداً إلى بسطة كتبه، دون أن ينطق حرفاً .
قال الرجل الغريب :
-"أين تذهب يا رجل ، انتظر لأخبرك أن معملك أعيد ترميمه وتشغيله،
بيدي هاتين أعدت كل ما استطعت إعادته."
ومدّ يديه الاثنتين وهو يكمل كلامه بفخر :
-"وها أنا هنا أمضي لتوقيع عقد صفقة جديدة لاستيراد البطاريات من شركة مساهمة لدولة صديقة"