لا يخدعنك الحنين حين يمد لك يدًا باردة، وكأنه يُغريك بالعودة إلى حيث سُفِكَت طمأنينتك، وذبلت أزهار سعيك. ليس الحنينُ إلى الأشخاص بقدر ما هو حنينٌ إلى تلك النسخة منك التي كنت تظن أنها باقية للأبد. حنينٌ إلى الأمان الذي شعرت به في لحظات الوداد الأولى، وإلى النسيم الذي كنت تستنشقه معهم، كأنك تُعيد تلمُّس روحك في هواءٍ رحل بلا رجعة.
هو ليس اشتياقًا لمن كانوا، بل لما كنت عليه حين كنت تظن أنك عثرت على مستقرّك. إنما هي بقايا مشاعر مأسورة، تتلوّى بين الأمل واليأس، وبين رغبة في التمسك وزهدٍ في كل ما فات. كانت تُشعّ كنجم، ثم انطفأت كجمرٍ خمد بلا ماء، بعد أن أحرقت ما حوله دون هوادة.
ذلك الحنين هو توقيع روحك، بصمةٌ تذكرك بأنك كنت صادقًا حدَّ الألم، وبأن قلبك كان كريمًا في عطاءاته، عارفًا بدروبه وإن ضلَّ السائرون فيه. هو استدعاء لذاك القلب الذي عرف الحب حقًّا، لكنه دفع الثمن فراقًا وافتقادًا. حنينك هو رجع صدى لنفسك التي أحببت أن تكون، النفس التي تحتاجها الآن لا مع ماضٍ انتهى، بل مع أناسٍ يعرفون قيمتك ولا يخذلون حضورك.
وإن جاءك الحنين بنغمة لاذعة؛ اسمح له أن يمر بك، لا تهرب من ألمه، فهو الضريبة التي يدفعها كل قلب شريف إذا ما فارق عزيزًا. لكن إياك أن تغريك وهم العودة. لا تترك خيالات الحنين تُخفي عنك حقيقة الوجع الذي خلّفوه، ذلك الجرح الذي لا زال ينبض في أعماقك، يذكرك أن بعض الأبواب لا تُفتح مرتين، مهما توسلت لها الذاكرة.