كثيرًا ما يُربّي اللهُ فينا الوجعَ ليعلّمنا الرِّضا، ويُذيقنا الفقدَ لنفهم معنى الاكتمال من دونه. فما كل ما يؤلمنا خصمٌ لنا، بل كثيرٌ من الأوجاع رُسُلُ نجاةٍ خفيّة.
ما أعظم الدرس الذي لقّنتنيه أيّامُ التجريب، إذ كففتُ عن التعلّق المُفرِط بالأشياء، وعن الارتهان لما كنت أظنّهُ قِوامي؛ من مشاعرٍ حسبتُها أناي، وأشخاصٍ توهّمتُ أني لا أكونُ إلا بهم، وأفكارٍ ظننتها يقينًا لا يَزول، بل حتى بالألم الذي استأنستُ به حتى صار مأواي ومُستراح خوفي.
كنتُ أقاومُ التحوّلَ كمن يُنازعُ ريحًا، وأستمسك بما ألفتُه ولو آذاني، كأنّ الفراغ بعد الفقد مَوت، وكأنّني إن أفلتُّ قبضتي تلاشت ملامحي في الريح. ظننتُ أن التملك في الإحكام، فإذا به خنق، وأن ما نُمسكه خشيةَ زواله، هو أوّل ما يُزهق أنفاسنا.
ثم أبصرتُ سُنّة التحوّل في كل شيء: رأيتُ المشاعر التي كانت كالطوفان، قد غدت جدولًا وديعًا، والذكريات التي كانت تلسعُ القلبَ قد بَهَت لونُها، والكلمات التي كانت تمزقني قد صارت همسًا لا يُوجع. ومن رمادِ تلك التجارب وُلد فيّ إنسانٌ آخر، ما كان ليَنبُت لولا أن سلّمتُ القديمَ للرحيل.
يا لرحمةِ التبدّل حين يُنقذُنا ممّا كنّا نظنه خلاصًا!
واليوم، لا أفرُّ من التبدّل ولا أُنازعه، بل أفتح له باب القلب راضيًا. أذوق المشاعر ولا أسكنها، أُحبّ ولا أُستعبَد، أملك ولا أُؤسَر، فقد أيقنتُ أن الحياةَ جريانٌ لا جمود، وأن البقاءَ في السكون فناء، وأن النجاةَ في الرضا والعُبور لا في القبض والتشبّث.
فسبحان من علّمني أن السلامَ لا يُستدرَك بالإمساك، بل بالإفلات،
وأن الثباتَ وهمٌ جميل، ما إن انكشفَ حتى تبدّى وجهُ الله في التبدّل.





































