لم يعد الخوف يسكن الزوايا المظلمة،
صار يقيم في أكثر الأماكن دفئًا.
في نظرةٍ صادقة، في يدٍ ممدودة، في محاولة اقتراب.
كأنّ الطمأنينة نفسها أصبحت بابًا محتملًا للألم.
لم يعُد الخذلان مجرد حدثٍ وقع،
بل ذاكرة تحرس نفسها.
ذاكرةٌ تعيد تشكيل نبضك كلما أحسّت بخطر الشبه.
فما عاد القلب يستقبل كما كان،
بل صار يفتّش في النوايا قبل أن يصدّق،
ويختبر اللمسة قبل أن يسمح لها بالمرور.
أحيانًا لا نبتعد لأننا لا نريد القرب،
بل لأننا لم نعد نحتمل تكرار السقوط.
فمن ذاق الخذلان لم يعد يرى في القرب دفئًا،
بل احتمالًا جديدًا للهاوية.
المعضلة ليست في عدم رغبتنا في الحب،
بل في أن أجسادنا لم تعد تصدّق الطمأنينة.
كل خلية تحفظ درسها:
أن الأمان مؤقت،
وأن كل يدٍ تمتد قد تسحب بعدها الضوء.
نحاول العيش كما لو أننا بخير،
نمارس الطمأنينة كعادةٍ مكتسبة،
نبتسم للوداعة، ونخفي ارتجافةً صغيرة في الداخل.
نقنع أنفسنا أننا تجاوزنا،
لكننا في الحقيقة نتدرّب على النجاة من جديد… كل يوم.
وحين يسألنا أحد عن المسافة بيننا وبين الآخرين،
نصمت، لأننا لا نعرف كيف نفسّرها.
نحن لا نهرب، ولا نقترب،
نحن فقط نعيش على حافة الأمان،
حيث لا أحد يخذلنا… ولا أحد يلمسنا أيضًا.
وربما… لا نحتاج أن نكسر أسوارنا دفعةً واحدة،
يكفي أن نترك فيها نافذةً صغيرة يدخل منها الضوء.
أن نسمح لنسمة صدقٍ أن تمرّ،
أو لصوتٍ دافئ أن يربّت على القلب دون أن نغلق الباب في وجهه.
لسنا مطالبين أن نثق كما كنا،
ولا أن نحب كما أحببنا،
لكننا نستطيع أن نبدأ بطمأنينة صغيرة،
تكبر مع الوقت حين يهدأ الخوف.
فحتى ذاكرة الجرح الهادئ،
يمكن أن تصبح دليلًا على نجاتنا،
لا على ضعفنا.
نعم… ما زلنا نحمل أثر الصفعة،
لكننا لم نعد ذلك الطفل الذي تجمّد في مكانه،
صرنا نعرف أن الأمان لا يسكن الآخرين،
بل يبدأ حين نصدق أننا نستحقه نحن أولًا.





































