هناك في أعماق الروح، تنمو حاجة ناعمة كزهرة في صحراء الحياة القاسية، تُدعى بـ"الاحتياجات الاعتمادية"، أو "احتياجات التعلق"، أو أحيانًا يُطلق عليها "الحب الممنوح بلا جهد"، أو حتى "الحب غير المشروط".
هي تلك الحالة السحرية التي نستقبل فيها الحب والرعاية كما يستقبل العطشان قطرة الندى في فجر قاحل، بلا طلب، بلا شرط، بلا حساب.
حالة من الهناء والنعيم، حيث لا يُطلب منا سوى أن نكون، فقط نكون...
في داخل كل واحد منا ذلك الطفل الذي لم يشبع من هذا الحب، الذي يبحث في كل زاوية من زوايا الحياة عن تلك اللحظات، عن ذلك الدفء الذي يُعيدنا إلى الفردوس المسروق، إلى الجنة التي طُردنا منها حين نزلنا إلى الأرض.
والبعض، من فرط ما نالها، استكان وأُفسد، فغدا كالشجرة التي سُقيت بالماء المالح، يتعب من ثقل رطوبتها الزائدة.
حتى أولئك الذين عاشوا هذا الحب بشكل جيد، تربوا على صيغته الناعمة، حملوا في قلوبهم ذاك الحنين إلى اللاشرط، إلى الهبة التي لا تنتظر المقابل، إلى المأوى الذي لا يفرض علينا أعباء الكبار.
نريد أن نجد من يشيلنا، يدلعنا، يحمينا، يرعانا كأننا زهرة نادرة في حديقة الحياة المتعبة.
نريد العودة إلى الفردوس، إلى ذاك المكان حيث لا هموم تثقل كاهلنا، حيث لا شروط، لا واجبات، ولا حسابات.
لكن للأسف، ها نحن في عالم الأرض، في حياة الكبار... حيث لكل ضوء ظله، ولكل نعمة ثمن.
حياة الكبار تحمل في أحشائها المسؤوليات، والحقوق المتبادلة، والشروط التي لا مفر منها.
لا مكان فيها للاسترخاء الدائم، ولا لسقوط حر بلا شبكة أمان.
الحب هنا، لا يكون بلا عمل، ولا يأتي بلا مقابل... بل هو رحلة متبادلة من العطاء والاهتمام، من الحماية والرعاية، ولكن بشرط أن نحمي أنفسنا أولًا، نعتني بها، ونقف لها سدًا منيعًا.
حالة الهناء تلك، رغم جمالها الفريد، تبقى حلماً بعيد المنال، لا ندركه إلا كأعياد نحتفل بها بين الحين والآخر، كإجازة قصيرة من شقاء الحياة.
لحظات نغدو فيها كأطفال جدد، ننسى فيها أعباءنا، ونفتح أيدينا على مصراعيها، نستقبل منها حبًا صافياً كالماء العذب، نمنحه بقلوب متعطشة، لنعود بعدها إلى صخب الأيام، وحتمية الشروط.
كثيرون من يتوقون لهذا الحلم، خصوصًا من لم يعايشوه أو من نزعتهم الحياة إلى واقع مبكر، خشن، يجبرهم على القتال في ساحة النضوج القاسية.
لكن، دون وعي حقيقي بالواقع وقسوته، وبدون تعديل توقعاتنا نحو الأرض لا نحو السماء وحدها، نصبح أسرى لخيبات الأمل، نغرق في بحر الغضب المكتوم، والمرارة، والسخط المستمر على الحياة.
نظل عُرضةً للوعود الكاذبة، للأوهام التي يبيعها لنا من عرف ضعفنا، من يستدرجنا بالأحلام، قبل أن ننكشف لمرارة الحقيقة.
الواقع يحتاج منا أن نعترف به، أن نقبله كأنه واقع فصل من فصول قصتنا، لا كعدو محارب.
وأن نبتكر لأنفسنا لحظات هناء، ونسرق من الوقت أنفاسًا نستنشق فيها نسيم الراحة، نرتوي من مياهها ونرتاح.
فالحياة، رغم صرامتها، تمنحنا فرصًا نادرة، لحظات فرح مؤقتة، ملاذًا نلجأ إليه، نستعيد فيه قلوبنا، نزرع فيه حبًا صافيًا، ونأخذ منه طاقة نستمد بها صمودنا في وجه الحياة.
فلتكن هذه اللحظات منحة، اجازة قصيرة من الحياة، حيث ننسى الشروط والواجبات، ونغفو على صدر الحب الذي لا يُشترى، ولا يُقايض.