أنا بائعة الوقت، وتلك طاولتي القديمة. أفرد سجادتي الصغيرة على الأرض الإسمنتية، أضع فوقها منبهًا مكسورًا، وساعة رملية تشكو ضيقها، وإطارًا خشبيًا لصورة بلا ملامح.
يمر الناس بجواري، يتأملون معروضاتي ولا يشترون شيئًا. يبتسم البعض ساخرًا: – من يشتري وقتًا ميتًا؟ أضحك، أخلع قفازي البالي، وأكشف عن كفٍ يابسٍ متشقق، فيه خطوط عمرٍ لم يكتمل.
أنا لا أبيع الوقت فعلاً، بل أعرضه فقط. أمدّ للمارّة تجارب مرت كريح الخريف: قصص من فرّطوا في دقات قلوبهم، نساء غزلن أعمارهن في ضوء الشاشات، ورجال دفنوا سنواتهم في صناديق بريد إلكتروني.
أحيانًا يأتيني طفل صغير، يسألني: – هل أستطيع استعارة دقيقة واحدة فقط؟ أهز رأسي مبتسمة، وأمد له كفّي: – خذها، لكن احذر، الدقيقة حين تذهب لا تعود.
ذات يوم، مرّ بي رجلٌ مغطى برائحة الكافور. كان يحمل صندوقًا شفافًا مملوءًا برسائل لم تُقرأ. جلس بجانبي بصمت، أخرج من جيبه ساعة جيب مكسورة وقال: – أضعتها حين ماتت أمي. أجبته همسًا: – لم تضيعها، بل جمّدتها على لحظةٍ لم تتجاوزها.
نظر إليّ، وكأنه لأول مرة يرى الزمن امرأة… امرأة لا تشيخ، لكن وجهها ينعكس في كل تجعيدة على جبين عاشقٍ نسي أن ينسى.
قال بصوتٍ مشروخ: – كنتُ أؤجّل البكاء… كنت أُخبّئه لأوقات الفراغ، حتى امتلأ العمر به.
أجبته وأنا أرتّب الرمل في ساعتي، كأنني أمسّد على رأس حكاية: – من يدّخر البكاء، يفيض به في الوقت الخطأ.
ناولني واحدة من رسائله. كانت مطويّة برعشة أصابعه، ومختومة بختمٍ مائيّ يشبه الدموع.
فتحتها ببطء، كما يُفتح باب قديم في بيتٍ مهجور، ففاحت منها رائحة ياسمينٍ ذابل، ومفرداتٌ ترتجف وكأنها كُتبت على عتبة الرحيل.
قرأتها بصمت، ثم نظرت إليه: – كتبتَ لها كثيرًا، لكنك لم تكتب لنفسك رسالة واحدة.
ردّ وعيناه معلقتان بمنبهي الصامت: – لا أعرف كيف أكتب لنفسي… كلما بدأت، سمعت صوتها تناديني باسمي الصغير.
كان الوقت على الطاولة يئنّ، وكل قطعة فيه تحكي ألمًا مختلفًا: المنبّه يشهق دون جرس، الساعة الرملية تتثاءب كأنها فقدت الرغبة في الحركة، والصورة التي بلا ملامح بدأت تتكوّن شيئًا فشيئًا… امرأة تشبه كل الأمهات اللواتي رحلن دون وداع.
همس لي: – خذيني إلى لحظة واحدة فقط… قبل أن تتركنا.
قلت له وأنا أرتب غطاءه على كتفيه: – لا أملك آلة زمن، بل ذاكرة تختبئ في جيوب الكلمات. احكِ لي، وسأعيدك إليها بطريقتي…
أغمض عينيه، وصار صوته أقرب إلى النشيج: – كانت توقظني برائحة الخبز… وتعاتبني بصوتٍ يشبه صلاة الفجر. – كانت تقول: "عش وقتك، لا تكن مجرد شاهد قبر في يوم طويل".
وحين صمت، ناولته الساعة الرملية.
قلت له: – اقلبها…
فعل، وبدأ الرمل يتساقط… لكنه لم ينزل كالمعتاد. بل كانت كل حبة، تحمل صورة: يد أمّ تمسح على جبينه، ضحكة صغيرة على باب المدرسة، وردة يابسة داخل مصحفها، وصورة له طفلًا يركض نحوها وهو يصرخ: "ماما… استنيني!"
بكى، ولأول مرة شعرت أن الطاولة لا تكفي لعرض كل هذا الحنين.
مددت له كفّي المتشققة، فقبّلها كما يُقبَّل التاريخ على جبينه، وقال: – لم أكن أعلم أن الزمن أنثى… لكنني الآن صدّقت أمي حين كانت تقول: "لا تجرح الوقت، فإنه أنثى… تغضب بصمت، وتنتقم بنسيانك."
نهض، أخذ ساعة الجيب، ووضعها على الطاولة بين معروضاتي، وقال بابتسامةٍ شاحبة: – دعيها هنا… فقد استرددت وقتي، ولو للحظة واحدة فقط.
ثم مضى… وبقيتُ أنا، أجمع فتات وقته، وأرتّبها في قلب الساعة التي بلا عقارب.
في صباحٍ خريفيٍّ خافت، كنت أعدّ تشققات كفي كما يحصي المحكوم أيامه الأخيرة. الباعة من حولي ينادون على الفاكهة، على الأحلام المخفضة، وأنا ما زلت ألوّح بسلعتي الوحيدة: الوقت المُهدر.
جاءني هو… طفل صغير، في عينيه وسع المجرة، وفي جيبه قطعة خبزٍ نصف مأكولة.
– "هل ما زال عندك دقيقة؟" قالها وهو ينظر إلى الساعة الرملية، كأنها قنديل علاء الدين.
انحنيت إليه، وأخرجت من جيبي رماد لحظةٍ لم يعد أحد يطلبها. ناولته إيّاها: – "خذها، لكن تذكّر… الدقيقة ليست لعبة، إنها نجمة تُطفأ إن أهملتها."
قبض على الرمل كما يقبض طفلٌ على جناح فراشة، وقال بصوتٍ يغلبه الرجاء: – "أمي تبكي كثيرًا… أريد دقيقة فقط، أقول لها: بحبك."
أطرقت رأسي، ولامسني الكلام كما تمس النار طرف إصبعٍ نائم.
أجبته: – "إن كانت تلك الدقيقة ستُنطق حبًا، فهي أثمن ما لدي."
ركض، وصوته يتردد في زقاق الزمن: – "مامااا… استني، عندي دقيقة ليكي."
وتركتني دمعةٌ وحيدة تحفر مسارها في خدّي اليابس.
عدتُ إلى طاولتي، ألملم الرمال المتبقية، وأفكر: ربما أنا لست بائعة وقت، بل مُنقذة لحظات.
مرت أعوام… والأرض الإسمنتية لم تتغيّر، سجادتي المهترئة صارت أكثر صمتًا، والمنبّه المكسور ما زال يصرخ من الداخل دون صوت.
في ذلك اليوم، اقترب مني رجلٌ يلبس بدلة رمادية… عادي جدًا، كأيّ مارٍ لا يملك نية الشراء.
لكن عينيه… كانتا مألوفتين، كأنني رأيتهما ذات زمن، حين كانتا تتسعان لكل شيء… حتى الدقيقة المسروقة.
وقف أمام طاولتي بصمت، ووضع شيئًا على السجادة… ساعة يد. جديدة. تدق.
وقال: – "أردتُ أن أُعيد الدقيقة."
نظرت إليه… وابتسمت.