في زمنٍ ما، يتعلّمُ المرءُ – وغالبًا من يدِ الألمِ مباشرةً – ألّا يُراهنَ على الانتظارِ كما يُراهنُ الغريقُ على قشّة، وألّا يُعلّقَ قلبَه على ما لا يَملكُ مفتاحَه، فإن في التعلّقِ بابَ وهنٍ، وفي الإفراطِ في الرجاءِ مدخلَ كسر.
لا يُفسِدُ القلبَ مثلُ شوقٍ أُرهقَ ولم يُستجاب، ولا يُنهِكُ الرّوحَ كرجاءٍ طال حتى صارَ عبئًا. تعلّمتُ أن لا أمنحَ قلبي كلَّ المدى، ولا أُثقِلَ زمني بانتظارٍ لا يَأتي.
الدنيا؟
ما أقبلَتْ به فهو خير، وما أدبرتْ عنه فهو خير، لأنني – بمقدارِ ما فَهِمتُ – لم أعُد أزِنُ الأمورَ بمزاجي العابر، بل بعينِ حكمةٍ أكبر منّي، وأرحم من قلبي، وأعلمُ بما يُقوّمُ عوجي منّي.
فالشرُّ قد يأتي في هيئةِ نصيحةٍ باردة، والخيرُ قد يُخفِي نفسَه في طيّةِ انكسار.
وقد تُهدى الدروسُ الجميلةُ في مغلّفِ وجع، ويُزهرُ القلبُ في أرضٍ حسبْتَها خرابًا.
الحكمة؟ أن ترى ما بعدَ الحدث، لا ما حوله.
والرضا؟ أن تسلّم يومكَ – كما هو – لا كما تشتهي، أن تأخذَه بكلِّ ما فيه، كمن أدرك أن الطمأنينةَ ليست في تغيّرِ الأحوال، بل في سكونِ القلبِ داخلها.
تعلّمتُ أن الزمنَ الذي أعيشه هو الأفضل، لا لأنه الأفضل في ظاهره، بل لأني ما زلتُ فيه، أتنفّس تحت سمائه، وقَلبي بعدُ ينبضُ رغمَ كلّ ما مرّ.
سواءً كنتُ وحدي، أو في حضرةِ من أحبّ.
مشغولًا، أو ساكنًا في صمتِ التأمّل.
المسألةُ ليست في العالمِ من حولي، بل في كيفَ أُصغي إليّ.
كلُّ السلامِ الذي أبحثُ عنه، ليس في يدٍ تُربّتُ على قلبي، بل في قلبي إن هوَ صفا.
في استعدادي لأن أعبرَ اللحظةَ كما أتَت، لا كما تمنّيت.
أنا لستُ تابعًا لما يمنحُني العالم، بل لما أمنحهُ لنفسي وأنا أعبره.
وكلُّ من نجا، لم يُنقَذْ بحظٍّ زائد، بل بروحٍ عرفتْ كيف تُصافحُ الخسارةَ بكرامة، وتُسلّمُ ما فاتَ دون أن تهدرَ بقيّةَ نفسها عليه.
النجاة؟
أن تُمرّنَ قلبكَ على التخلّي الرحيم.
أن تُنقّي روحك من شوائبِ الرجاءِ المُنهِك.
أن لا تكثرَ التطلُّعَ إلى الخلف، ولا تعقدَ مصيركَ بوعدٍ لم يأتِ بعد.
أن تحيا يومك، لا كوسيلةٍ لشيءٍ أعظم، بل كغايةٍ في ذاتِه.
أن لا تنتظر، إلّا أن تُبصر، وأن لا تطلب، إلا أن تهنأَ بما وهبَك الله الآن.
فما عند الله، في كلّ حال، لا يُضام،
ولا يُؤخّر عنكَ إلا ما لو أتاكَ لأوجعك،
ولا يُمنَعُ عنكَ إلا ليُعطِيكَ أعظمَ منه.