ما أعمقَ عِلّةَ التعلّق في النّفس، وما أدقّ خيوطها إذ تمتدّ بين الحاجةِ والهوى، وبين الخوفِ والرغبةِ في الأمان. فليست البلوى في أصل التعلّق، إذ هو غريزةٌ جُبل عليها الإنسان، يسعى بها إلى أن يرسوَ على أرضٍ يُغرس فيها جذره، ويستظلَّ فيها بطمأنينةٍ وسَكَنٍ ووَنس. ولكنّ الداءَ كلَّ الداءِ في ما يتسرّب إلى تلك الغريزة من فَقدٍ مبكّرٍ أو جَرحٍ غائرٍ لم يُضمد.
فهنالك من يُلقي بنفسه في أحضانِ علاقةٍ خاويةٍ من الروح، أو مُتعبةٍ تُذيقه الوَهن، لا لأنّها تُشبعه، بل لأنّها تُخدّر فيه وجعَ الوحدة. يُمسك بسرابِ الأمانِ كمن يُمسكُ الماءَ بكفّه، فيرتوي وهماً ويظمأُ حقيقةً.
إنّ الخوفَ من الوحدةِ أشدُّ وطأةً من الوحدةِ ذاتها، والارتعاشَ من الفقدِ أنكى من الفقدِ حين يقع، ومنه تُولدُ أشكالُ التعلّقِ المضطربة: مَن يزدادُ تشبّثاً كلّما خاف الفقد، ومَن يزدادُ فراراً كلّما اقتربَ الحُبّ، ومَن يخافُ القربَ كما يخافُ البُعد.
وما بين قلقٍ وتجنّبٍ وخوفٍ متخفٍّ في هيئةِ صلابةٍ، تضيعُ معاني الأمانِ الحقّ. فالتعلّقُ السويّ ليس تمسّكاً حتى الاختناق، ولا عزلةً حتى الجفاف، بل توازنٌ بين الجذرِ والجَناح، بين أن أكونَ متّصلاً بالعالم دون أن أفقدَ نفسي فيه.
ومن دلائل الشفاء أن نختارَ لأنفسنا أرواحاً آمنةً، متصالحةً مع ذواتها، تُحسنُ الإصغاءَ دون حُكم، وتُحبُّ دون قيد، وتبقى دون تهديدٍ بالغياب. عندها فقط، تُشفى الجراحُ القديمة، ويُعاد بناءُ الطفولةِ في القلبِ على أسسٍ من الطمأنينةِ والعقل، لا على رُكامِ الخوفِ والاحتياج.
فما التعلّقُ إذًا إلا مرآةُ جوعٍ قديمٍ يبحثُ عن حضنٍ جديدٍ، وما التعافي إلا أن نصيرَ نحنُ الحضنَ لأنفسنا.





































