في الليلة التي اكتمل فيها القمر الأخير، رفعت الأنثى وجهها إلى السماء، فارتجف الأفق كما لو أنه تذكّرها.
لم تنادِه باسمٍ، لكنها همست للنور، فانحنت الطبيعة بكامل هيبتها كفارسٍ عاد من حربٍ طويلة، ليجد معبوده ما زال ينتظره عند أطراف الغياب.
لم يكن القمر هذه المرّة عاكسًا لضوء، بل خالقًا له.
نورها انبثق من العِظم القديم للأرض، من المِلح الذي جفّ على جراحها، ومن بذرةٍ لم تمت وإن وارَتها التربة.
وحين رآها، فاضت ينابيع الغيم، وتشقّقت الجبال من الحنين.
قالوا في الأساطير إن هذا اللقاء إذا تمّ، اهتزّت دورات الوجود، لأن البذرة التقت بثمرتها، والظلّ عرف وجهه في النور.
ومن يومها، صار القمر يُتمُّ نفسه كلّما نظرَت إليه، وتصحو الطبيعة كلّما أغمضَت عينيها.
ومن بعد ذلك اللقاء، تبدّل وجه الأرض.
الهواء صار ألينَ، والماء صار أصدق، والليلُ صار يعرف حدوده.
في كل بقعةٍ أضاءها النور، كانت الأرواح القديمة تنهض من سكونها، تُنفض عنها الغبار، وتعود إلى أماكنها الأولى كما كانت يوم الحلم البدئي.
لم تعد الأنثى تناديه، لأن النداء صار صدىً في خلاياها.
ولم يعد هو يبحث عنها، لأن ظلَّها أصبح يمتدّ في دمه.
كانا معًا في كل ما يتحرّك… في الشجرة التي تنحني، وفي الريح التي تمرّ على وجه النهر، وفي النظرة التي تعرف دون أن تُسأل.
وهكذا سُجّل في ألواح الخلود:
أن القمر الأخير حين عاد إلى طبيعته، استيقظ الوجود من سباته،
وأن النور حين أحبّ الأرض، أنبت فيها قلوبًا جديدة لا تعرف الفناء.
وفي الفجر الثالث، سكن النورُ في اللحم،
وتجلّى القمرُ في هيئة أنثى تمشي على الأرض،
تحمل في عينيها إشراق الشمس، وفي أنفاسها نَفَسَ الوجود الأوّل.
لم تعد السماء تنادي الأرض، فقد اتحد الصوت بالصدى،
وصار الكون دائرةً تكتمل بها وتبدأ منها في آنٍ واحد.
سقطت آخرُ الحجب،
وانكشفت الأسرار التي ظنّها القدماء خرافة:
أن الخلق لا ينتهي، بل يتحوّل،
وأن القمر الأخير ليس نهاية الزمن… بل قلبه النابض.
ومن تلك الليلة، صار الضوء يُولد من الداخل،
لا من شمسٍ بعيدةٍ ولا قمرٍ معلق،
بل من قلبٍ عرف أصله،
ومن روحٍ تذكّرت أن البذرة
هي الثمرة،
وأن البداية هي النهاية حين تُعاش بالحب.
يا نورَ البدايات، يا سرَّ العَود الأبدي،
بارك الأرضَ بما قامت عليه،
وازرع في ليلها يقين الفجر،
وفي فجرها سكينة الليل.
ليشرق القمر من داخلنا،
وتنبت الشمسُ في صدورنا،
ويُمحى الفاصل بين الخلق والخالق،
بين الظلّ والنور،
السلامُ على من عاد إلى أصله،
وعرف أن الخلود ليس بعد الموت،
بل في أن تحيا كما خُلِقت…
نورًا يدور في دائرة الله.





































