لم تكن الكتابةُ عندي فعلَ بوحٍ فقط،
بل طقسَ نجاةٍ صامت،
أغسلُ فيه قلبي من الغياب،
وأتركُ للضوءِ أن يختارَ طريقَه نحوي.
"حين مرّ الضوء من قلبي"
لم أطلب الخلاص،
كنتُ فقط أريدُ أن يصمتَ هذا الارتجاجُ في صدري،
أن يمرَّ الضوءُ منّي كما تمرُّ النبوءةُ من نبيٍّ أنهكه الوحي،
أن أتنفّس دون أن تتبعثرَ ذراتي في الفضاء.
قيلَ لي:
النورُ لا يسكنُ إلّا قلبًا طهُر.
ولم يقولوا إن الطهرَ يولدُ من الانكسار،
حين تنفتحُ الشقوقُ في الروحِ لتدخلَ منها العناية.
انشطرَ في داخلي مرآة،
ومن صدعها انبثقَ وجهٌ لا أعرفه،
ربّما كنتُ أنا قبل أن أُحب،
أو ظلّي الذي نجا من الزمان.
كلّما استعنتُ بالعقلِ على نجاتي،
سبقني الحنينُ كظلٍّ لا يتعب.
يلتفتُ نحوي، يبتسمُ بوداعةٍ مُوجِعة،
ثم يختفي في أوّلِ نورٍ،
كأنهُ يعرفُ أنني سأتبعهُ حتى آخرِ صدى.
أحببتُ كما تُحبُّ المرايا وجوهَها،
وأيقنتُ أن الحبَّ ضوءٌ يتجلّى على قدرِ القلب.
وحين ضاقَ بي النبضُ من شدّةِ الصفاء،
جلستُ على حافةِ المسافةِ بيني وبيني،
فمرَّ بي — لا بوعدٍ، ولا بفقدٍ —
بل كنسمةٍ خرجت من صدرِ الغياب.
منذُ ذلك، تغيّرَ شكلُ الأشياء.
الظلالُ صارت تُحدّثني،
والماءُ صار يعكسُ ما لا يُرى.
حتى الوجعُ اتّخذَ هيئةَ ملاكٍ أبيض،
جلسَ جواري وقال:
"كلُّ ما انكسرَ فيكَ كان بابًا."
في المساء،
تتسلّلُ الأصواتُ القديمةُ من مرايا الذاكرة،
يمرُّ الذين أحببتُهم واحدًا واحدًا،
كأضواءٍ صغيرةٍ على طريقٍ لا نهايةَ له،
ألمسُهم، فيذوبون كأنهم من دعاء.
حين مرَّ الضوءُ من قلبي،
لم يتركني كما كنت،
لكنّه لم يأخذني أيضًا.
تركَ فيَّ أثرًا يشبهُ الفجر،
وغفرَ لي ما لم أعرف أنني أخطأتُه.
أنا الآنُ — بينَ الحضورِ والغياب —
كبيتٍ غسلهُ المطر،
تلمعُ على جدرانه خطايا بيضاء،
ويُقيمُ في نوافذهِ الصمتُ على هيئةِ صلاة.