هناك جروحٌ تشبه الأحجار الثقيلة، لا تُرى بالعين لكنها تُثقل الكتف، فنمشي ونحن نحملها معنا حيثما ذهبنا. ليست كل الجراح نزفًا ظاهرًا، بعضها يتخفّى في الطبقات الأعمق من الوعي، يعيش في صمتٍ، ويتحوّل تدريجيًا إلى جزءٍ من تعريفنا لأنفسنا.
الإنسان ليس مجموع ما يمرّ به من أحداث، بل مجموع ما يرويه عن هذه الأحداث. نحن لا نتذكّر الواقع كما جرى، بل كما أعطيناه معنى، وكما سردناه لأنفسنا وللآخرين. لهذا فإن الألم الذي لا يجد لغة، لا يجد حكاية، يبقى معلقًا في الداخل، متحجرًا، متكلسًا، حتى يغدو هوية كاملة. نصبح نحن ذلك الجرح، بدل أن يكون الجرح شيئًا أصابنا ثم مرّ.
السرد ليس ترفًا أدبيًا ولا رفاهية المثقفين، بل هو ضرورة وجودية.
فحين يكتب المرء وجعه، أو يحكيه، فإنه لا يحرّره من الداخل وحسب، بل يفكّك سلطته على وعيه.
الحكاية تمنحنا مسافة، تلك المسافة التي تجعلنا نقول: "لقد حدث هذا لي، لكنه ليس أنا كلّي".
إنها أشبه بمرآة نضعها أمام الألم، فنراه من خارج أنفسنا. ومن دون هذه المرآة، يبقى الألم مستوطنًا في الجسد، يختلط بالنبرة، بالعين، بالسلوك، حتى نغدو انعكاسه.
في غياب السرد، يصبح الألم بطاقة تعريف خفيّة.
يظهر في طريقتنا في التفاعل مع الناس، في ثقتنا المكسورة، في خوفنا من التقرّب، في صعوبة الانفتاح، في نزقٍ لا نعرف سببه أو في لينٍ مفرط لا نتحكم فيه. ومن دون أن نشعر، نصير نحن "ضحايا"، لا لأن الآخرين أسمونا هكذا، بل لأننا لم نُعطِ الجرح لغةً تتجاوزه.
ولننظر حولنا:
تلك المرأة التي فقدت والدها صغيرة، ولم تتكلم عنه يومًا، تراها تكبر وهي تحمل فراغًا في قلبها، تبحث في كل علاقة عن "أبٍ بديل" من غير وعي. جرحها لم يتحوّل إلى سردية، فصار هويةً خفية تُدير اختياراتها.
وذلك الرجل الذي خانته الحياة في صداقة قاسية، فلم يفضح ألمه ولم يتكلم، صار يعيش بحذرٍ زائد، يختبر كل من حوله بعين الشك، حتى صار "الخيانة" جزءًا من صورته عن العالم، لا مجرد حادثة في الماضي.
وذاك الطفل الذي كُبتت دموعه، فقيل له: "الرجال لا يبكون"، حمل صمته معه حتى صار رجلاً يهاب مشاعره، لا لأنه قاسٍ بطبعه، بل لأن جرحه لم يُحكَ، فابتلعه حتى صار هو صلابته الظاهرية.
إن السرد فعل مقاومة.
أن تحوّل صرختك إلى نص، جرحك إلى قصة، دمعتك إلى قصيدة، فهذا يعني أنك انتزعت من الألم سطوته. لقد وضعت يدك على زمام التجربة بدل أن تتركها هي تملي عليك صورتك. السرد هو الفعل الذي يحررنا من عبودية الصمت، ويمنحنا حرية تشكيل ذواتنا من جديد.
وما الكتابة إلا نوعٌ من العدالة الرمزية. فهي تجعل ما حدث قابلًا لأن يُفهم، لأن يُعاد ترتيبه، لأن يُقرأ بعيون أخرى. إنها تقول لنا: لستَ وحدك، ثمة من قد يشاركك التجربة ولو عبر الكلمات. أما الصمت، فيحوّل الألم إلى قيدٍ داخلي، إلى سجنٍ لا جدران له لكنه يطوّق الروح.
ولذلك، فالإنسان الذي يروي وجعه، يستعيد سيادته على ذاته.
يقول للزمن: "لن أكون ما فعلت بي، سأكون ما حكيت عن نفسي".
بهذا، يغدو الألم فصلًا في الحكاية لا الحكاية كلها، تفصيلة في السيرة لا العنوان الرئيس.
فالألم الذي لا يتحوّل إلى سردية، يتحوّل إلى هوية.
والسردية، في معناها الأعمق، ليست مجرد فعل كتابة، بل هي فن البقاء إنسانًا رغم كل ما جرى.





































