لم أكن أعلم أن الطريق سيعيدني إليّ.
ظننتُ أني تركتُ خلفي نسخًا بائدة من نفسي،
أشلاء قرارات، وخرائط بلا عنوان.
لكنني اليوم، أراها…
واقفة في زاوية بعيدة من روحي،
تشبهني… لكنها مُنهكة.
كانت تراقبني بصمت منذ زمن،
لم تتقدّم، لم تنادِ،
فقط انتظرت أن ألتفت.
أخبرتها أنني سامحتنا.
لا لأننا لم نُخطئ،
بل لأننا فعلنا ما استطعنا،
بما كنا نعرفه وقتها.
أخبرتها أنني اشتقت لضحكتها،
لرعونة قلبها حين كان يحب بلا خوْف،
لقوّتها المزيّفة، وشجاعتها الحقيقية.
سألتني: "أين ضعتِ؟"
فقلت: "لم أضع، كنتُ أُفتّش عنكِ."
نظرت إليّ كما تنظر الأم لطفلتها العائدة،
وربّتت على كتفي كما لم يفعل أحد.
غابَ السؤال،
وغابَ الندم،
وبقي فقط… الحضور.
أنا لم أعد أُقارن،
ولا أبحث في الوجوه عن شيء يشبهني.
كأنني تعلمتُ أخيرًا أن أحتويني،
بألمي، بنضجي، بقلقي،
وبالارتباك الذي لم يعد عدوي.
وفي صباح غائم لم أُخطط له،
خرجتُ تمشي روحي وحدها،
كأن جسدي لا يزال نائمًا…
والأثر هو من يقود.
الشارع كان قديماً…
مرصوفاً ببلاطٍ يعرف أنين خطواتي،
ومزروعاً بنوافذ مفتوحة على أعمار مضت.
مررتُ بجانب مقهى صغير،
رائحة القهوة تشبه حضن قديم،
ضحك خافت يتسلل من الداخل،
فابتسمتُ دون أن أدري لماذا.
ثم وقفتُ عند جدار،
عليه خربشات أطفال،
وقلب صغير اخترقه سهم،
تذكرتُ أنني رسمتُ مثله يومًا…
حين كنت أؤمن أن الحب لا يخذل.
وفي نهاية الزقاق،
جلست امرأة عجوز تبيع زهوراً ذابلة،
لكن عينيها تلمعان كأن فيهما حدائق لم تُروَ بعد.
نظرت إليّ، وقالت دون مقدمة:
"متأخرةش تلاقي نفسك… اللي بيستنى كتير بيرجع نقي."
لم أرد، فقط شعرت بشيء يرتفع بداخل صدري،
كأن جدارًا قديمًا قد تَصدّع،
وكأن الضوء خرج من بين الشقوق.
قبل أن أغادر الزقاق،
مررتُ بجانب شجرة توت هرِمة،
كانت تشبه جدتي في سنواتها الأخيرة…
منحنية، لكنها لا تزال تثمر.
تسللت توتة ناضجة وسقطت أمامي فجأة،
فأخذتها بين أصابعي،
ونظرت إلى السماء…
سحابة على هيئة قلب،
طائر صغير يحوم ثم يختفي،
ونسمة خفيفة تحمل رائحة ياسمين نسيَ الناس وجوده.
عند طرف الرصيف،
لاحظتُ ورقة صغيرة بين الزهور الذابلة،
عليها كلمات بخط غير مألوف:
"ما تأخرتِ… كنتِ فقط تمرّين بجميع نسخكِ، لتعودي لنقائك."
قرأتُ الجملة،
ثم أغلقتُ عينيّ لحظة،
كأنني أمنح قلبي فرصة ليحفظها…
لا عقلي.
فتحتُ عينيّ على نور خفيف يتسلل من بين الغيوم،
ورأيتُ ظلّي على الأرض، واضحًا وثابتًا.
ضحكتُ بهدوء،
فقد كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها ظلّي…
ولا أخافه.
"وجدتني… في مكانٍ لم أبحث فيه من قبل."
١٤/ أكتوبر