يبدو وحيداً، وحيداً تماماً في هذا الكونِ، كقطعةٍ منْ حطامِ عبَّارةٍ غارقةٍ، في منتصفِ دجلةَ، عيناهُ ساهمتانِ، ترقبانِ اللاشيء، هذا الإحساسُ تملَّكهُ، هيمنَ عليهِ، منذُ ذلكَ اليومِ المشؤومِ، عندما وبدونِ سابقِ إنذارٍ، عمّتْ الفوضى، وسادَ الرعبُ والذعرُ" أمَّ الربيعينِ" بعدَ أنْ امتلأتْ حينها بالأفراحِ واللهوِ واللعبِ، صوتُ الاستغاثاتِ وصراخُ الأطفالِ والأمهاتِ، جعلَ الهلعَ يدبُّ في نفوسِ منْ كانوا على شاطئِ النهرِ.
إلا خالداً الذي رمى بنفسهِ في النهرِ، لايدري ما الذي جذبهُ إلى دواماتِ الماءِ والأمواجِ المتسارعةِ، عيناهُ مصوبتانِ إلى صبيِّةٍ، صوتُ استغاثتِها طغى على ملامحِها، تصدُّعُ العبَّارةِ افقدها توازنهَا، تدافعتهَا الأيدي والأرجلُ، ليتلقفَها النهرُ الغاضبُ منْ ظلمِ بني جنسِها..
وما أنْ لامستْ مياههُ، حتى ذابتْ فيها كما تذوبُ الشمعةُ منْ أمامِ وجهِ النارِ...
المشهدُ أيقظَ في أعماقِ خالدٍ، الرجلَ الغافي منذُ سنواتٍ.
لحقَ بها إلى أعماقِ النهرِ، أمسكَ بضفيرتهَا السابحةِ في مهبِّ الماءِ، جذبهَا نحوهُ وضمَّها بكلتا يديهِ نحو صدرهِ، مرتباً أبجديَّةَ أنفاسهِ، لجمالِ لقاءٍ طالَ انتظارهُ.
فمنذ التقيا لأوّلِ مرّةٍ منذُ سنواتٍ، ونافذةُ الروحِ باتتْ ترى في عيونهَا نورَ القمرِ، وبينَ عينيهَا سجوداً وخشوعاً وابتهالاتٍ، فهي منْ كانتْ الشمسُ ترتِّبُ لها أشعتَها حتى لا تؤذيَ فتنةَ عينيها، والقمرُ ينحسرُ هلالاً غيرَ آسفٍ على منحِ نورهِ لعينيهَا...
همسَ في أذنهَا:
- موقنٌ أنا، بأني سأجدكِ ..
ضحكتْ حوريتُهُ، وتناثرتْ ضفيرتُها ، لتضمِّخَ دجلةَ بعطرهَا، ويطوِّقَ خاصرتهَا بوشاحِ أمنياتٍ، تزركشهُ رعشةٌ أضحتْ تلامسُ الروحَ، وتوقفُ احتضارَ الشوقِ، قائلةً:
-لاتجعلْ اللقاءَ يخطفُ أنفاسكَ...
ما أجملَ لحظاتِ اللقاءِ وما أصعبهَا حينَ يغشاها التفكيرُ بأني بلا قدرٍ فأنتَ لمْ تكنْ يوماً قدريْ.
تتلوى بذيلهَا الذهبيِّ بينَ يديهِ الواهنتينِ لتفلتَ نفسهَا، وتدفعهُ بكلِّ قوتهَا نحوَ الأعلى، وتغيبَ عن عينيهِ في عمقِ الدوَّامةِ.
يرتطمُ رأسهُ بغصنٍ صغيرٍ، حاولَ جاهداً أنْ يمسكهُ، وحينَ أفلحَ في ذلكَ، وجدَ حمامتينِ تشدَّانِ بمنقاريهمَا أطرافَ الغصنِ وتحلقانِ بهِ إلى حيثُ اعتادَ الجلوسَ، ذاهلاً على حافةِ النهرِ كلَّ يومٍ.