دائماً يطغى الحادث الأهم على المهم ..، والحدث الأهم في حياة "هبة " كانت عطلة منتصف العام ولذتها القصيرة ..،
يوم يمر وراءه يوم .. تتضائل ذكرى الكلية والمدرجات والملازم والأساتذة .. والزملاء ..، لتصبح بعيده للغاية وثقيلة أيضاً ..،
دعتها "شيماء" ذات يوم لمقابله في الجامعة ..، ولكنها لم تبد حماسة تذكر .. تعرف أن الفراغ كلمة ليست في قاموسها المزدحم حتى تضيق بها ال24 ساعة ..!
انتهت الإجازة وعاد الملل الدراسي المعتاد ..
كانت في المدرج عقب إنتهاء المحاضرة الأولى .. الساعة تقترب من الثانية عشر ظهراً ولم تظهر صديقتها حتى الآن ..، هناك ساعتان بين المحاضرة الأولى والثانية .. تباً !
لماذا لا يكون الأمر كالحصص المدرسية ..، كيف ستقضي ساعات ما بين المحاضرات وحدها ؟ لكنها على كل حال أفضل من (ضريبة ) الصداقة التي تدفعها كل مرة بالاضطرار إلى الوقوف مع أصدقاء "شيماء " الشباب
فكرة الإفطار في كافيتيريا الجامعة ليست سيئة .. خاصة لو تبعها ساعة في المسجد لصلاة الظهر وقراءة بعض صفحات الكتب الموجودة هناك ..
ستعرف كيف تمضي الوقت ..
خرجت من المدرج لتجده واقفاً أمامها يمسك بعلبة تحوي بعض (شرائط الكاسيت ) .. ،، حاولت تجاهله كأن لم تره لكنه لحقها ..
- هبه ..
ابتسمت بحرج كأنما تلحظ وجوده للمرة الأولى : أهلاً يا أحمد .. ازيك دلوقتي
صمت قليلاً كأنما أحرجته بذكرى اليوم اياه ..: الحمد لله أحسن ..،
- خلصت محاضراتك ولا لسه ؟
- معنديش محاضرات انهارده !
- طيب جاي ليه ؟
تنحنح بحرج ثم أجاب ببسمة خجول : - عشانكم .. عشان اشوفكم !
ارتبكت بشدة .. هل من المفترض أن يكون هذا معتاداً في حياة الجامعة ؟ أم أن هناك معنى آخر بين طيات كلماته ؟
أين شيماء الآن ؟ لماذا تختفي في الأوقات المهمه ؟
- شيماء مجتش انهارده ..، مش عارفه في ايه
ابتسم كأنما لاحظ ارتباكها : عارف انها مجتش .. انا واقف مستنيكي !
زادت دهشتها وارتباكها على نحو ملحوظ ثم ازدردت ريقها بصوت مسموع وأجابت بلهجة جافة قليلاً : مستنييني ؟ ليه خير ؟
مد يده إليها بالعلبة .. وتابع بابتسامة : عشان اديكي دي ..
- أمسكت بها وقلبتها بين أصابعها : أيه دي؟؟
- مجموعة دروس دينية عن قصص الأنبياء وعن ... عن الحجاب ..!
ارتفع حاجباها في دهشة .. ! إلى هذا الحد يراها زنديقة كافرة ؟؟ وماذا يعنيه أصلاً في حجابها من عدمه ؟؟ماذا يظن نفسه ؟ واعظ الأمه ؟
قالت ساخرة : دي طبعا اللي هتعدل مسار حياتي من الضلال للهداية ؟! بص يا احمد انا سمعت دروس كتير جدا وبصلي الفرض في وقته الحمد لله لسه حالا كنت رايحه اصلي الضهر ..، مسألة الحجاب دي جايه جايه لكن مش بالدروس ولا بالمواعظ بالعكس انتو كده بتخلوني اعند اكتر !
- لو كنتي ضاله مكنتش وقفت استناكي بقالي ساعه .. انا عارف ان مصيرك تتحجبي بس عاوز يكون لي سهم في الثواب ..
نظرت إليه في ضيق .. كان يبتسم ابتسامة طفولية جزله وقد أشاح بوجهه جهة اليمين قليلاً ليضعها في مركز رؤية العين اليسرى ..
من جديد عاودها الإحساس بالشفقة .. ممزوج بنوع آخر .. هل هو الإمتنان ؟؟ إمتنان لشخص لم يعرفها سوى بضع دقائق لكنه اهتم بأن يجمع لها شيء مفيد ؟؟
- ماشي شكراً ليك جدا ..،
وضعت العلبة في حقيبتها ثم همت بالانصراف لولا بادر بسؤالها على عجل ..: مش كنتي رايحه تصلي ؟
- ايوه
- ماشي انا كمان رايح اهو نلحق ثواب صلاة الجماعة !
ارتفع آذان الظهر فعم المكان سكون خاشع
.. أفسحت الطريق للشاب وسارا سوياً باتجاه مسجد الجامعة ..،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بفم مملوء بالبيض سألها وهما يقفان على إحدى طاولات الكافيتيريا المزدحمة ..
- مبتاكليش ليه ؟ مكسوفه ؟
- هاكل ..!
كانت من النوع الذي لا يجد الراحة أبداً في تناول أي شيء أمام الناس ..، صحيح أنها تضطر للإفطار في الجامعة كثيراً ..لكنها تحرص على أن تتخذ مكان لا يراها فيه أحد ..، فقط ليجبرها هذا الشخص على أن يفطرا سويا ناهيك عن أن الإفطار والذي أصر على أن يدفع ثمنه لم تختاره وتركته لاختياره فاختار لها ما لا ترغب فيه !!
لقد أفسد يومها تماماً ..!
غمغمت بينها وبين نفسها (سامحك الله يا شيماء ) ..!
- كنت بقولك ليا اختين الكبيره مجوزه وعندها بنت ..، والصغيره لسه في ثانوي عام .. بس انا الكبير ووحيد والدتي والدي متوفي !
- وخطبتك ؟
توقف عن المضغ .. وسعل كأنما فاجئه السؤال ...
شرد ببصره قليلاً ثم أجاب وقد تغيرت ملامحه ومزاجه في لحظة : مالها ؟
- احكيلي عنها ,
وضع باقي شطيرته في الطبق الورقي أمامه ونفض يديه ثم أخرج منديلاً ورقياً يمسح فمه كأنما يعلن شبعه أو إنسداد نفسه
- بنت حلال ..! بس دي قصة ليها ظروف تانيه
ترددت قليلاً ثم قالت : لو مش عايز تحكي بلاش ..
- لالا هحكيلك .. ثم أخذ نفس عميق وراح يسترسل : يا ستي انا عمري 20 سنة اكبر منك ب 3 سنيين ..، في بلدنا في الصعيد الشباب بيخطبو فالسن ده ..، ولان والدي توفى من فتره وكان في مشاكل بين عيلة والدي ووالدتي وشبه انفصال فوالدتي بعد وفاته حبت ترجع الميه لمجاريها تاني لشئون متعلقه بالميراث كمان وتخليص حقنا وكده ..، فخطبتلي بنت عمي غصب عني .. واحنا مسافرين الاجازه اللي فاتت دي كنت بتحايل عليها انها متوصلش الموضوع لكده لكن ده اللي حصل ولقيتهم بيباركولي علي قراية الفاتحة وفيوم وليلة اشترينا الشبكه ولقتني خاطب !
- غريبة ان في شاب يقول غصب عني .. الجمله دي كنت فكراها للبنات بس
ابتسم في حزن : للاتنيين دلوقتي ..، نقطة ضعفي هي أمي بحبها لدرجة التقديس ولا يمكن كنت أفكر ازعلها أبداً ..، لكن بعد اللي حصل ده تقريبا في كل يوم مشكله بيني وبينها..، بتنتهي كتيير باني اسيبلها البيت واروح ابات فأي مكان تاني ..، معرفش الموضوع ممكن يوصل لفين بس الأكيد إني مش هتمم الجوازه دي
حاولت أن تخفي ابتسامتها فدست أنبوب (الشاليموه) بين شفاهها وراحت تمتص المشروب ..
- طيب ليه مهيا جايز تكون بنت حلال وكويسه وعسى ان تكرهو شيئاً وهو خير لكم ..
- البنت كويسه ماشي.. المشكله فيا انا ..! انا اللي مش عايز اكون كبش فدا واجوز بالشكل ده ..
ثم أضاف باسماً و بلهجة ذات مغزى : مش دلوقتي .. لو كان ممكن اوافق قبل كده 1% دلوقتي مستحيل !
لم تسأل لماذا ..، اكتفت بالتظاهر بتأمل المكان من حولهما ..
احساس واحد يمكن تمييزه من بين احاسيسها المضطربة المتضاربة ..
إنها سعيدة ..!
سعيدة ربما للمرة الأولى في حياتها
سعادة غير مبرره
ولا مفهومه ..
(يتبع)