ها قد انقشعت الغمة وظهر الفجر ومع أنه مازال في باطن السماء إلا أنه قد آذن صبحه بالبلج .. تراكمت المشاعر في صدري وحاول لساني البوح فعجز وبقي أخرس في وقت يتكلم فيه الجميع .. اعترتني مشعر من أغرب ما يكون واعتركتني بينها فأصبحت كالمتخبط .. سعيدة جدا لأن بلدي يمارس هوايته الأثيرة في تعليم الحضارة للتاريخ .. فزعة جدا لأن هؤلاء الشباب لهم أحباء تتفتت أكبادهم وتنصدع قلوبهم من الخوف عليهم .. مغتربة جدا في بلد يبدو جديدا بالنسبة لي على الأقل .. والأهم ثائرة جدا لدرجة الاحتراق بغيظي الخاص من شجاعة هؤلاء وتقاعسي وانصياعي لتلك الرجاءات المتوسلة التي منعتني من الخروج يوم 28 يناير ولو حتى لأحمل زجاجات المياه للشرب والخل للإسعاف من آثار القنابل المسيلة للدموع والمفتتة للقلوب وأيضا الغيظ من غباء النظام المطلق الذي لم يكلف نفسه عناء البحث عن مميزات هذا الشعب الذي طالما جلس منه التاريخ مجلس التلميذ من الأستاذ .. هذا الشعب الذي تحير في وصفه الواصفون فتارة يصفونه بالبلادة وتارة يصفونه بالنقاء إلا أن أحدا لم يتجرأ على وصفه بالغباء .. يشبهون أبا الهول كثيرا حيث يرى كل شيء , ولا يتكلم أبدا, لكنه رابض ينتظر مصرع الطغاة .. ناظر لمدفن الغزاة
أيضا شبهوه بالنيل الذي يجري من المنبع للمصب في صمت وهدوء وعندما يغيض ويكاد ينقطع منه الأمل يتدفق هادرا محملا بالنماء و جارفا كل شيء يعترض طريقه
لكن أبدع التشبيهات تلك التي ساقها يوسف إدريس في قصته [ سره الباتع ] على لسان واحد من علماء الحملة الفرنسية أن هؤلاء الفلاحين ـ يقصد المصريين في القرن الثامن عشر ـ يشبهون الرحى : حجرين يبدوان بلا قيمة يدوران ببطء وتمهل لكنهما يطحنان ما يوضع بينهما محولانه إلى دقيق ناعم وهكذا يفعل الشعب بالغزاة يأتونه متصورين أنهم سيغرونه إلا أنهم سرعان ما يتحولون غلى مجاذيب له وعشاق أو يزيدون ترابه قليلا بأجسادهم التي تذوي ويبقى المعنى من ورائها شاهدا على عظمة هذا الشعب وأجمل ما فيها أنها عظمة لا تتضح إلا بإحداد البصر , وأهم ما فيهم هم قدرتهم اللامحدودة على البقاء والتكتل والحب
إن هؤلاء الأغبياء الذين فتحوا النار على زهرة شباب مصر وعقولها لم يفهموا أن المصري المسالم [ الذي يمشي بجوار الحائط ] هو نفسه الذي يفتح صدره للنار مكبرا ومهللا إذا استثاره من لا يعرفون غضبه
هذا الشعب الذي يبدو غيرمكترث بما يحدث حوله هو أكثر الناس استجابة حين ينجح شخص ما أو شيء ما في إثارة اهتمامه .. بمجرد الإيمان بفكرة يحولها واقعا ملموسا ولو اقترنت هذه الفكرة بالحب اصبحت هزيمته مستحيلة ولو بالبطش والتنكيل .. هذا الشعب الذي حول الأشخاص والأفكار والمناسبات إلى مزارات ملموسة في عمق الوجدان ويورثها عبر الأجيال بما يجعل النسيان صعبا إلى درجة الاستحالة .
هذا الشعب الذي وصفه توفيق الحكيم بأنه يجتمع على الألم فيحوله إلى معجزة باقية كما في الأهرام مستعينا بروح المعبد [ ويقصد بها التفاني في خدمة المعبود ولو كلفه ذلك المشقات ] وتستقر في غريزته أو بصيرته خبرات وتجارب عشرة آلاف عام بدون أن يعي ذلك أو يقصده فيتصرف في الأزمات بوحي من هذه البصيرة التاريخية النادرة ـ هو نفس الشعب الذي حاول الجهلاء تفريقه بوسائل أقل ما يقال عنها أنها بلهاء وتنم عن جهل بمميزات الروح المصرية التي إذا استجمعت يقينها صارت كالعملاق النائم إذ يستيقظ .
هذا الشعب هو الذي أثبت أن الصدارة في يده وأن الشرق كله ـ ومعه التاريخ ـ يقف ذاهلا متعجبا من شرارته التي تحرق الطغيان وتحمس المتخاذلين