حينما تمت مصادرة كتاب الشيخ الغزالي (كيف نتعامل مع القرآن؟) في المملكة العربية السعودية، غضب الشيخ الغزالي من هذا الصنيع، ووصف هؤلاء الشيوخ الذين قرروا هذه المصادرة: بأن على عقولهم أغلاق، وفي قلوبهم قسوة، ولا يعطون الرأي الآخر أي حرمة.

كانت عاطفة الشيخ مهتاجة ملتاعة، لكنه لم يسمح لنفسه أبدا أن يكون فاجرًا في الخصومة، أو ممن يدفعهم الغضب للعدوان على كل شيء يمس السعودية، فإذا به يقول ويتذكر جميلا مضى: "إنني أحب المملكة العربية السعودية، لأن علمها يحمل شعار التوحيد، ولأن ملكها يخدم الحرمين الشريفين! ولأن تراثها شهد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهم يخرجون من ديارهم لإخراج العالم من الظلمات إلى النور.

وشيء آخر ينبغي أن أذكره، لقد آوتني المملكة عندما نكر لي السادات، واضطرني أن أترك وطني مهزوما مظلوما، إنني وجدت أذرعًا مفتوحة، وصدورًا مشروحة، واشتغلت بالتعليم مع نفر من أنبل العلماء وأذكاهم، وأديت واجبي على نحو أرضيت فيه ربي وأرحت ضميري.!"

ولو أن أحدًا ممن لم تتهذب نفسه وتتربى على معاني العدل، لهاجم السعودية قاطبة علماءها وحكامها وشعبها، لكنه الشيخ المربي المنصف، الذي علم الأجيال والشباب، سماحة الداعية، وسمو المسلم.

كثيرون منا حينما يدفعهم الغضب للعراك، يأتون على كل شيء دون تمييز، فيكونون أشبه بقذائف النابلم التي تأكل الأخضر واليابس.

والحق أن النفس السوية، هي التي تعتدل في كل شيء، وتضبط بالأحرى مسار عداوتها، ولا تسمح لنار الغضب أن تشب في أرجاء المدينة، لتقضي على ما فيها من جماد وحيوان قبل أن تقضي على الإنسان.

كان هناك رجل تقدم لخطبة فتاة، فرفضه أهلها أكثر من ثلاث مرات، ولكنه كان يلح في طلبها، ويدافع بأمله موجات اليأس المحبطة.

تراجع الجميع وآمنوا بحبه لها، ولم يجدوا بدا أن يرتضوه زوجا لها.

وبعد الزواج وبعد أن صارت تحت يديه، انفجرت طاقة الغضب الهائلة، وبركات العقد المخيف، فقد تحولت كل مرة رفضوه فيها إلى نقطة سوداء أو شوكة نافذة تعكر مزاجه، وكلما نظر إلى وجه زوجته، لا يتذكر جمالها ولا شيئا من حبه لها.. فقط يتذكر تلك العقدة المؤلمة حينما رفضه أبوها.

تطورت العقدة، وتضخمت مع الأيام، وارتقت من مجرد شعور قابع في أعماق النفس، إلى سلوك عدواني مع زوجته، فصار يضربها ويسحبها ويؤذيها.

وتجرعت المسكينة مرارة العيش مع هذا المضطرب المريض المهووس.

إن الإنصاف حتى في العداوة خلق لا تطيقه إلا أنفسًا سامية وضمائر حية.

لقد نظر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إلى عمه حمزة وهو صريع ممثل بجسده الطاهر في ساحة أحد، فلما تملكه الحزن، تنقل في مواكب الغضب، وأقسم أن يمثل بسبعين من قريش ثأرا له.. وهنا لم يتأخر الوحي لضبط هذه المشاعر الثائرة، وإلجامها بالعدالة والقسط، فنزل قول الله تعالى وهو واقف في مكانه:

(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) النحل/126.

قام أحد العرب وتسلل خفية إلى القليس كعبة أبرهة، وأحدث فيه تبولا وبرازًا، ولطخه النجاسة والقذارة، إظهارا لعدم تقديسه.

ولما علم أبرهة غضب غضبا شديدا، وأقسم أن يكون رد فعله أن يهدم الكعبة والبيت الحرام ويتخلص منها.

وما ذنب العرب وما ذنب الكعبة، أن تؤخذ بجريرة أعرابي كان الأولى أن يتم البحث عنه وعقابه وحده على فعله المشين.

ولكن الغضب إذا مار بالنفس، فإنه لا يعرف حدودا ولا تسعه أنهار الدنيا قاطبة لتطفئ ناره.