التراجع .... عن الموقف ... او القرار ... يحتاج قرارا ... و موقفا من نوع خاص ...
الكثيرون يعتبرون ان التراجع ... ضعف ... و تردد ... و اهدار للكبرياء !
بينما الحقيقه ... ان التراجع ... هو قرار لا يتخذه الا الاقوياء ! ...
دعونا نسهب قليلا عن ثقافة التراجع ...
كنت ادير مباراة لكرة اليد ... و من المعروف ان مباريات كرة اليد من اصعب الالعاب الجماعية من حيث التحكيم .... و فجأه اتخذت قرارا و اشرت بيدي لصالح فريق معين .... و اذ بي اكتشف ان يدي ليست في الاتجاه الصحيح .... فغيرت اتجاه يدي للاتجاه الصحيح ... متحملا عبئ كبريائي المهدر في نظر من يتابعون المباراة ....
بعد المباراة ... و اثناء الاستماع لملاحظات مراقب المباراة .... لفت نظري ان الرجل اشاد بقراري "بالتراجع" عن قراري الخطأ .... ثم سمعت اشادات اخري في ذات الاتجاه ! .. لاكتشف ان كبريائي المهدر لم يكن الا سرابا في صحراء عقلي ...
في مجال عملي .... يسود الضبط و الربط نظرا لحساسية المعدات الهندسية التي نخوض فيها مهندسين ... و كثيرا ما تحدث الاخطاء ... و كثيرا ما توقع العقوبات علي المخطئين ....
من هذه العقوبات ما يكون سريعا بدون تمحيص ... و بعد التدقيق ... يكتشف موقع الجزاء ... ان الجاني مظلوم ... و ان العقوبه لا تتناسب و الحدث .... فيكون امام مفترق طرق .... اما التراجع عن قراره .... و اما المضي قدما نحو استمرار العقوبه !
الاغلب الاعم لا يتراجعون ... لان التراجع ... يرونه ضعفا ... و اهدارا للكبرياء ... و اهتزازا في الشخصيه .... بينما نفر قليل - اشكر الله اني ادعي اني منهم - اتراجع فورا عن عقوبة وقعتها كانت في غير محلها ...
قد يصيبني الضيق ... حينما اكتشف خطأ صافرتي في مباراة ... او عقوبتي المبالغ فيها لمرؤوس في عملي ... لكنني اشعر بتحسن نفسي كبير ... و قوة "خاصة" عندما اتراجع عن الخطأ!
كثيرا ما ادخل في نقاشات .... و اثناء النقاش اكتشف اني اسير في الاتجاه المظلم ... فأتراجع ! .... لكن الاغلب الاعم في معظم المشاركين في الحلقات النقاشيه سواء علي الصفحات الافتراضيه او في الواقع ... لا يتراجعون ابدا ابدا !... و كأن الكبرياء سيسيل انهارا من تحت اقدامهم لو اقدموا علي هذا الفعل الشنيع !
يدخل من ضمن انواع التراجع ايضا .... ان تتراجع عن موقف كونته عن شخص ما ... او هيئة ما ... او اتجاه فكري ما .... بعدما وصلت الي قناعة ان تقييمك كان خاطئا .... لكن الكثيرون للاسف لا يتراجعون ... مهما كان المنطق واضحا جليا فظا فضا ... فلن تجد "زملكاويا" يتحول الي "أهلاوي" ... او العكس.... الا ما رحم ربي :) ... و كأن عصر الجاهلية هو من يحكمنا !
اذكر اني قرأت ان ابا جهل سئل عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ... فقال : انه و الله لصادق ! .... و مع ذلك لم يتراجع ابا الحكم ... ليصبح ابا جهل !!
احيانا يصفون الشخص بأنه عنيد ... و عندما تزيد وتيرة الاحسان الي هذا العنيد ... يزداد عنادا علي عناده !.... فكبرياءه الحساس يضرب بعصا غليظه علي فؤاده الخاوي ... رغم ان السلوك السوي يفترض ان الاحسان و الاسترضاء يؤدي الي اللين و الصفح و التراجع .... و هذا النموذج منتشر و يظهر جليا في بعض الاطفال ... فعندما تبدأ بتدليل طفل ما تجده يعاند آكثر .... و لكن هذه الصفة تكون قبيحه قميئه عندما تظهر في الراشدين .... فتجد الرجل يخاصم ... و حينما يستشعر محاولات استرضاء ... يفجر .... و لا يتراجع او يتنازل ... و تأخذه العزة بنفسه ... و طبعا النساء قوامون علي الرجال في هذه الخاصية بالذات ..
في الحقيقه .... قابلت الكثير من هذه النماذج في الحياة و في العمل و في المباريات و علي الانترنت .... يعتبرون التراجع او التنازل ... او خفض الجناح ... ضعفا و ذله ... فيتمادون في العجرفة الخاوية علي عروشها ... ظانين انهم يحافظون علي كبريائهم ... و علي الهالة التي يتخيلونها حول انفسهم ... رغم ان الحقيقه عكس ذلك تماما ... و ان مقدار الشخص يزيد في الاعين كلما تراجع عن خطأ
ديننا الحنيف رفع مبدأ ذهبيا خالدا هو العفو عن المقدره .... و جوهر هذا المبدأ هو التراجع ... بل ان الدين كله مبني عن التراجع عن الاخطاء و الشهوات .... و خلافه ... و لكننا - كما تعلمون - نجيد رفع الشعارات عن التطبيق ...
و لكن و لأن كل شئ تحكمه النسبية ... فللتراجع حدود .... و الخط الفاصل بين التراجع و التردد قد لا يظهر ... فمثلا اذا غير حكم مباراة رياضيه قراره مرتين او ثلاثه في مباراة واحده ... أصبح مترددا ... ضعيفا ... غير واثق ... و لو كان علي صواب
و لو غير شخص من وجهة نظره اثناء نقاش ما ... حول نقطه ما ... مرتين او ثلاثه في ذات الجلسه ... فهذا شخص يعاني من خلل في تقييم الموقف ... و ضبط المعايير الفكرية التي يرتكز عليها
و لو تراجع رئيس بلد ما عن قرارته كل شهر و كل اسبوع و كل يوم... فهذا يدلل علي تردد واضح ... و انتفاء لصفة الحكمة في تقييم القرارات التي يوقع عليها ...
لذا .... فالتراجع صفة محموده .... لا يتصف بها الا الاقوياء .... لكن التكرار في نفس ذات الحدث ... قد ينقلب علي صاحبه ... فكن قويا ... و حكيما ... و تراجع لكن في الوقت المناسب ... و تخلص من ثقافة باليه مناهضه للتراجع ... هي جزء من طابور من الثقافات التي تحتاج الي قرار بالتراجع عنها ...
تحياتي
:)