لماذا علي البقاء في عالمكم القميء؟ لقد اخترت لأول مرة في حياتي وسأنفذ قراري، كل ذنبي أنني ولدت بين أحضان إحدى عائلتين متناحرتين، عائلتان تظنان أن العدل مبني على الاقتصاص من الجاني بيدي أفراد عائلة المجني عليه، لا يعرفون للقانون سبيلا، لقد ضعت بين رحى الثأر الدائرة منذ عقود، وأصبحت ضحيتهم، لا أعرف حقا من الشيطان الذي قرر أن يكون هذا عقابي؟ كيف له أن يتخذ قرارا بهذه البشاعة؟ أليعذب أبي وهو يراني أمامه بهذا الشكل، قرر أن يقتل كل جميل في دنياي؟
لقد كنت فتى لم أر من الحياة شيئا بعد، لم أكد أخطو أولى خطواتي على عتبات المراهقة والتمرد على العادات، لقد عشت سنين حياتي كلها في رعب دائم، لا أخرج مثل البقية ولا أسهر مثلهم، بل حتى اللعب في الشارع كان شبه محرم علي، والآن غدوت لقمة ممضوغة ومبصوقة على أرض الثأر الدامية، كيف للقمة خبز أسعى لشرائها أن تصبح سببا في مأساتي؟
كنت أسير دون أن أنظر حولي، فقد اعتدت منظر الشوارع والأشجار والسماء الصافية ذات الشمس الساطعة، لم أكن أظن أن اليوم سيكون آخر مرة قد أرى فيها شيئا آخر غير الظلام، ليتني عرفت! لاستمتعت بكل جزء من الثانية في يومي، ليتني عرفت أنني لن ألمس شيئا بعد الآن لأمضيت يومي كله في تحسس كل ما يمر بي، وحتى لتحسست جسدي الذي لن أعرف شكله بعد الآن.
ليتهم ثقبوا أذني أيضا، لكي لا أسمع كل همسات الشفقة التي تتسرب إلى مسامعي فتجعلني أود لو باستطاعتي البكاء، لا أعرف إن كنت أبكي، فألمي أكبر من أن يسمح لي بالشعور بدموعي الساخنة التي ربما تسيل الآن على وجنتي، فلا أنامل لي لأمسحها بها، لقد كنت أحلم بأن أصبح جراحا يوما ما أو لاعبا أولمبيا يجري بلا توقف، بل ربما كنت طيارا، أو حتى سائقا، أي شيء سوى هذا الخيال الضعيف، ولكنني الآن سأتعثر إن سرت، وسأسقط أرضا إن فكرت بالجري، لقد وأدوا أحلامي في مهدها، لا بل وأدوها قبل أن تولد.
الرعب الذي شعرت به وهم يحاولون الإمساك بي لم ولن أستطيع يوما التعبير عنه، بل والأصعب من ذلك أن من لجأت له ليحميني منهم، قد كان معهم أيضا، ذل وإهانة فوق الاحتمال، ولكن عندما يلوح منجل الموت فوق الرؤوس لا كرامة تهم، لكنني الآن نادم لتوسلي إليهم وبكاءي أمامهم كطفل جبان، وليتهم رحموني!
أمسكوا بي وأوسعوني ضربا، لم يشفع لي صغر سني ولا ضعفي، ولا حتى صراخ استغاثتي، اقترب مني أحدهم وأنا ممد أرضا غارقا بدماءي، وهو ممسك بسكين ضخمة وثبتني الآخرون، قطع يدي الاثنتين وهو يضحك، صراخي ربما وصل السماء ولكنه لم يصل إلى قلوبهم، ربما كانت صدورهم فارغة من الأساس، كانوا ينظرون في أعيني التي كانت يوما سبب فخر لي بجمالها الفاتن، ونظراتي ربما أخافتهم، قالوا سيتعرف علينا إن رآنا ذات، يوم فاقترح أحدهم.. لا بل حمل مفكا واقترب مني وهو ينظر في عيني ونفذ اقتراحه فورا واقتلع عيني، وحكم علي بالظلام المؤبد.
لم يكفهم كل هذا بل تركوني في العراء بجراحي النازفة، ووعيي الغائب عن الوجود ورحلوا، لا أعرف حقا كيف كتبت لي النجاة وليتها لم تكتب، كل لحظة أشعر بيد والدتي وأسمع صوتها الذي ينز ألما وحسرة يتقطع قلبي، ليتني مت ولم أكن عذابا لها.
والآن.. كتب علي بيد من لا قلوب لهم ولا ضمير، أن أكون عالة على عائلتي للأبد بدل أن أكون سندا وعونا لهم على الحياة، وحتى تحين لحظة وفاتهم وبعدها سيظل وجودي يؤرقهم.
لا.. لا أريد أن يحكم على من فعلوا ذلك بي بالموت، بل أريد أن يفعل بهم ما فعلوا بي، وقبل ذلك أريد أن يعود نظري إلي لأراهم وهم يتعذبون، ولكن هيهات.. ليت الزمن يعود للخلف قليلا، وسأتمرد ولن أذهب لشراء رغيف الموت ذاك!
أرأيتم كم أنا ضعيف؟! حتى قراري بمغادرة هذا العالم لم يعد بالإمكان، فلا يدين لي لكي أنفذ بهما قراري، يا الله ارحمني من هذا العالم القبيح وخذني إلى جوارك وأعدني كاملا يا الله بقوتك.