شطحات رحلة
٣. نقطة ماء
أسعد اللحظات هي التي تتجول فيها على بساطها القطني الساحر. ساحرٌ هو في اشكاله التي تتجدد كل لحظة. ومسحورٌ.. تبدده الرياح لبُسط صغيرة متطايرة لا تلبث أن تتجمع بساطا كبيرا مرة أخرى. يسعدها الأنس المؤقت مع الأصدقاء يستثمرون الوقت في اللهو والاستمتاع مع الطيور المهاجرة في لعبتهم الاختفاء والبحث. فما هي إلا ساعات أو دقائق حتى تذهب هي و الأصدقاء كل إلى مهمته و ربما لن تعود.
سكون تام بعد رحيل آخر أسراب الطيور اليوم. لعله السكون الذي يسبق العاصفة. لحظات من الترقب والانتظار. لقد تأخرت عن موعدها السنوي. هاهي الجبهة المدارية الحارة الرطبة قادمة نحوهم يحملهم هواؤها الساخن إلى أعلى. صيحات السعادة و المرح تعلو من الجميع. يحدق كل منهم في الآخر بابتسامته المتوجسة فما هي إلا ثوان و يبدأ الهبوط الهائل متعة لا تدانيها إلا لعبة الأفعوانية في ديزني لاند.
منخفض جديد و تجمعات للغيوم الكثيفة مصحوب برياح شديدة تنذر بامطار غزيرة في الطريق. تجمعت هي والأصدقاء كل يمسك بيد زميله. نظراتهم الحماسية لا تخفي اضطرابا واضحا قد بدأ يغزو الوجوه، فلا يعلم كل منهم ما ستسفر عنه اللحظات القادمة.
بدأت التقلبات القوية تعصف بغيمتهم الثقيلة و تقلبها. تارة ترفعها و أخرى تهبط بها في حركة اضطرابية مفاجئة تزلزل اركانها وتشتت أفرادها و تغربلهم. وقد بدأوا يتساقطون فرادى و جماعات فالبعض لايزال متمسكا بيد زميله من دون إرادة منه.
كان الهبوط مفاجئا و سريعا لكنه لا يعدو أن يكون مغامرة مثيرة كلعبة البانجي. فكما الأسماك لا تخشى الغرق في الأعماق، هي ايضا تستمتع برحلتها بين الأرض والسماء. فلا تزال ذاكرتها تحمل أوقاتا رائعة في صندوقها الأسود. كم كانت سعيده و الاطفال يتقاذفونها بقوة فى البحر وهم يضحكون مغمضى الاعين. تذكرت حين كانت ممدة على سطح المحيط في يوم مشمس جميل تتمايل مع أمواجه الهادئة وتعلو وتهبط متناغمة مع تلك الأمواج . لم تكن سوى لحظات غفت فيها٠
حين شعرت أنها اخف وزنا و لا تزال تطفو وتتمايل لكنها تعلو دون هبوط. استيقظت لتجد السحب العالية قد أصبحت أشد قربا. وجمهور غفير من القطرات الصغيرة تلوح إليها مرحبة. تحسست المحيط من حولها فلم تجد رطوبة الماء. أرادت التحقق فلم تصدق ما تراه. لقد ابتعدت كثيرا عن مياة المحيط وهي تطفوا الآن بين ذرات الهواء وقد صارت جزءا منه. خشيت على نفسها من السقوط فهي المرة الاولى التي يحدث لها ذلك بعد أن تسللت يوما إلى سطح الماء دون معلومات مسبقة عن البخر. " لأول مرة يكون الجهل بالشيء مفيدا. " هذا ما أسرت به إلى نفسها، فربما لو علمت ما كانت لتنعم بهذه الرحلة خوفا من مصيرها المجهول.
تحولت إلى رحالة تجوب البلاد تراها من أعلى و كأنها تمسك بورقة مرسوم عليها خريطة العالم بتفاصيله الدقيقة. كانت أيام ممتعة فقد تعلمت الكثير من خلال أسفارها. كانت تستمع إلى حكايات العجائز وهم ينتظرون الشتاء ليعودون إلى الأرض من جديد فكما جابوا السماء وحفظوها اردوا ذلك في الأرض فقد تولد لديهم شغف الرحلات والاستكشاف حتى أدمنوه. وهم لم يعرفوا من الأرض إلا الماء وحان الوقت ليستكشفوا اليابسة.
اصطدامات متتالية في الأشجار الباسقة المتشابكة الأغصان والأوراق حتى أنها شكلت سطحا أخضرا من تلك الغابة المطيرة
دفعتها سيول من القطرات المتزاحمة لتنفذ من ذلك السطح وتتسلل من بين الأشجار باحثة عن محطة أخيرة تستقبلها، لكنها في رحلة السقوط مرت بكثير من أعشاش الطيور و الحيات الزاحفة و القوارض وقفزات القرود على الأغصان. تنوع هائل لم تتخيل أنها تراه يوما.
ما أن التقت باليابسة حتى أدركت انها ليست المحطة الأخيرة. فلم يُعلَن عن وصول الرحلة لكن كان الإعلان عن رحلة جديدة إلى الأعماق.
شعرت أنها بيد.طفل يسحب قطرات العصير بالقشة. فقد سحبت بشدة إلى أسفل. سحبتها التربة الخصبة. فرغم غزارة المطر إلا أنها كانت متعطشة إلى كل قطرة ماء تحتاجها هذه الأشجار العملاقة.
انطلقت في حركة زجزاجية بين حبيبات التربة والقت السلام على مجتمعات الحشرات و الديدان التي تسكنها. اصطدمت بشبكات انبوبية متداخلة انزلقت عليها و دارت معها حتى بلغت أحد أطرافها في أعمق نقطة وصلت أليها. تشبثت مقاومة قوة السحب لأعلى من ذلك الطرف. الذي نقلها في تلك المصاعد الاوتوماتيكية لأوعية الخشب الطويلة التي تمتد من الجذور في أعماق التربة لتوصل الماء والأملاح لأعلى نقطة الجزء الخضري للنبات بساقه وبراعمه وأوراقه مارا بالزهور والثمار. كانت القطرات الأخرى تأتي محطاتها فتترك مكانهاإلى حيث لا تدري. أصابها دوار شديد في رحلتها هبوطا وصعودا وراحت في نوم عميق تخلله بعض الفزعات المتقطعة لكنها الآن مستسلمة لتلك المسارات الأجبارية في تلك الأنابيب المظلمة وكلها أمل في نسمة هواء باردة كتلك التي افتقدتها في الغيمة القطنية تأخذها من ذلك الجو الخانق لكنها الآن أضعف وأشد تعبا من أي لحظة مضت. أيقظتها تلك البرودة المفاجئة وقد انفتحت بعض النوافذ على سطح الأوراق الرطبة من سطح الغابة الأخضر أطلت منها على غيمة كغيمتها وتطلعت ليوم تعود فيه إليها. فهل يأتي ذلك اليوم أم تسبقه إليها حشرة شاردة تلعقها قبل رحلة البخر من جديد.