كتاب قاض من مصر (سيرة ذاتية) للمستشار الكاتب: بهاء المري
دار المفكر العربي للنشر والتوزيع
الغلاف: رائع
-----
الإهداء:
أقول:
وما الحرف إلا زادٌ ينفقه النبض من سِعة دَفَقِهِ؛ فيُطعِم الحب جبرًا وحياة لقلوبٍ أنهكتها الدنيا وزلزلتها الأقدار. فهذا الكتاب بمثابة نفقة قلب وهدية روح لعبقرية #أم ثاقبة الفكر، واعية البصيرة، شفيفة الروح، أسست بنيان فارسها على التقوى والصدق والقيم والأصول وهي تتململ بين رحى الظروف، مُسبِلة الطرف إلى السماء في تضرع ورجاء ليقر قلبها بالفوز بما جادت به عليها الأقدار برؤية ابنها رجلًا تعرف خطاه الأرض بأثره الطيب، وتأمل أن يكون معروفًا لأهل السماء بعمله الصالح.
ثم #أب كان خلقه البر؛ فأكرمه الله في ذريته من بعد.
يقول الله عز وجل:
"وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا"
فالولد هو عمل أبيه، ففي صلاحه صلاح ولده بإذن الله.
وهنا الكاتب لم تُطعم عيناه من زاد السفر في وجه أبيه، والتوضؤ بملامحه عند مطلع كل فجر، لكنه عاش محفوفًا بإرثه الطيب من البر والتقوى، حاملًا ذكراه العطرة في صدره كوطن يأويه، فقد رآه -كما قال- بأذنه، فما خطا خطوة إلا وكان أثره يسبق خطواته، وحسن صنيعه يضم افتقاده إليه.
فالذكريات هي إرث الروح الذي يطعمها الحياة كلما تسلل إليها ليل الوحشة، واشتد بداخلها الحنين!
ثم لمن شاركوه رحلة حياته بكل صنوفها وألوانها، ولكل من وجد في طياته قبسًا من هدى.
#اللغة_والسرد
اللغة فصحى رصينة، تخللت جزالتها بعض الكلمات العامية المتداولة في ذلك الوقت، والجمل الحوارية التي جرت على لسان الأبطال في حياة الكاتب؛ فزينتها بالشفافية، وأضفت على حسنها مسحة من الصدق الضافي؛ مما جعلها تسلك طريقها للقلوب بسهولة.
ومما لفت انتباه قلبي في الفصول الخمسة الأولى أن الكاتب جعل من كل الشخصيات أبطالًا على اختلاف طبائعهم وتناقضاتهم وحيواتهم، وكأنه يريد أن يقول لنا: إن النفس البشرية لا يعدم فيها الخير أبدًا، فقط علينا أن نرى بذرته، ونتعهدها بالرعاية والقيام لتشرق شمسه، وإن عزفت وآثرت الركون لطينها، يكفي أن الخير سينطبع أثره فينا.
السرد شائق، رائع، مكلل بالتفاصيل الدقيقة، قائم على أحداث حقيقية أكسبته هالة من الجمال، فلن يصيبك ملل أبدًا ولو أعدت القراءة مرات ومرات.
كما أن الكاتب في تلك الفصول قد سلّط الضوء على قضايا هامة كانت سائدة في ذلك الوقت، وربما لا زال أثرها يعبث في النفوس التي استولت عليها نزعة الميْل إلى تفضيل الذكور على الإناث، وإزهاق حق اليتيم معنويًا وماديًا إلا عند القلوب التي يسكن فيها كلام الله.
وغياب صلة الرحم عند غياب التوجيه وفِقه الوعي بادخار كنز البر الذي يربيه الله لصاحبه بمرور العمر، ليتزود به عند الحاجة إليه، فما ينفقه المرء من روحه، ويربِّي عليه أبناءه، حتمًا سيعود إليه يومًا في أبهى حُلة وحال في الدنيا والآخرة.
(أخ.اها)
هذه الكلمة التي تفرقت حروفها على ضفاف السطر أبكتني كثيرًا أكثر من قسوة الموقف ذاته!
فالموقف يتلخص في قسوة خال غائب عن البر، وتائه عن الصلة، لطم ابنة أخته، الذي من المفترض أن يكون هو سندها وعكازها!
فحين كتبها الكاتب هكذا.. كنت أشعر وكأن الصلة حين أريقت على نصل القسوة؛ انفرط العقد، وانكسر الرباط المقدس؛ فحين سكب الكاتب ذاكرة قلبه المثخنة بالألم على صدر الورق، صرخت الحروف من عمق الوجع: "لبيك"، فاخترقت النقطة صوت الكسر في الكلمات، ووقفت حاجزًا بين كلمة "أخ" لفظًا، وألف الانتماء انتسابًا، فجاءت كلمة (أخ. اها) مهزومة الانتساب مبتورة السند.
كما أن الكاتب في هذا الكتاب أبحر في أعماقنا ليستخلص الدُرّ الكامن من أنفسنا الغارقة في تيه الحداثة التي التهمت الكثير من قيمنا واجتاحت أصولنا، فمنحنا القدرة على استعادة إرثنا الطيب وفطرتنا النقية من جديد من خلال ما سرده من قيم، وأخلاق، وعادات تحيي من كان له قلب.
مما راقني أيضًا أمانته مع عمته، وحرصه عليها بعد وفاتها، حين اكتشف أنها قد خصته هو وحده دون أولاد عمه بقطعة أرض تملكها، لأنها لم ترزق بالأولاد، وكان هو أكثر برًا بها ورعاية لها؛ فعزم أن يحرر عمته من ذاك القيد الذي طوقت به نفسها حين آثرته هو بالميراث دون ابني عمه، فقرر أن يصحح ما وقعت فيه، وإعطاء كل ذي حقٍ حقه، وكأنه بفعله ذاك استطاع أن يقيم الفروض ويحيى القيم التي أسقطها الطمع من عنوةً ذاكرة الدنيا!
وفي النهاية، يتأكد لي شعوري
بأن الكتب تختار من يقرأها،
فحين اقتنيت هذا الكتاب كنت أنظر إليه لكثرة صفحاته، وأشعر بثقله على روحي، وأحدِّث نفسي بين الحين والآخر قائلة:
كيف يمكنني قراءته؟!
أما بعد؛
وجدته وكأنه أتى ليستدعي ذكرياتي العتيقة، لتطفو على سطح روحي؛ فأقرأ وأبكي ولا أدري لماذا، هل من فرْط الصدق، أم من سحر الماضي وعبقه الفواح أم.....؟