لله در الروح حين تأسرك فتسافر فيك لتأخذك إلى أرض جدباء تحتضن المأوى على رصيفٍ من سراب، اشتد ظمأ روحي لنبض الساعة الثامنة بتوقيت السمر، حيث تضمني ديمة برفق ثم تضعني في إحدى زوايا المنضدة، تهدهد وجهي بأناملها الرقيقة كقلبها، ثم تبتسم ابتسامة دافئة تضفي الحب على ملامحي والمكان، توقد الشموع التائقة كتوق قلبي إلى رفقتها كل ليلة. تعد أطباق العشاء لشخصين في تناسق أخاذ على بساطته، تجلس في هدوء ضافٍ غير أن كل شيء حولها يغزوه الضجيج.
هذا المقعد الخالي أمامها يُسمعني أنينه من فوهة عين قلبه التي لا ترى، وتلك الأطباق التي تعدها لآدم هذا الذي لم يأتِ لازالت تعزف معزوفة الفراق المتراقصة على بياض الحزن الأليم، لكنها على حالها قابضة.
تتناول طعامها ثم تنظر إلى طيفه هامسة بابتسامة رائقة: آدم، أعددته لك بنبض قلبي وهمس الحب. فعليك تناول طعامك كاملًا، لا تبقِ شيئًا، ثم تعود لتكمل طعامها، ترفع الأطباق بهدوء فور انتهائها، تعد فنجانين من القهوة المحببة إليه وإليها.
وأخيرًا يحين الوقت مع دقات العاشرة، حين تحتضنني من على المنضدة، تنظر إلى وجهي بحب، تبتسم وهي تردد بخفوت ذلك العنوان الذي وشمتني به "أنت بي"، تضمني في حنايا قلبها وتهدهد أوراقي برفق وحنين، تبدأ القراءة، وأنا أنظر إلى وميض قلبها برقة وحب، وهي تشعل في قلبي نار الغيرة والغضب، عندما تنظر إلى طيفه أمامها على المقعد تبتسم تارة، تهمس إليه تارة، وتبكي تارة أخرى حتى يذوب نبضى مع آخر حرف فيَّ وآخر ومضة في فتيل الشموع التي ذابت مع آخر قطرة دمع سقطت من عينيها.
هكذا كانت كل ليالي ديمة.إلى أن أهلَّ تشرين الأول يتهادى بكل ألوان الفرح، إنه يوم ميلاده الذي شرعت ديمة في الاحتفال به.
علقت الزينات، أضاءت الشموع، رصت الحلوى الشرقية التي يحبها، وفي المنتصف تورتة كبيرة، خُطت عليها عبارة Happy birthday بخط رائق، وزعت الأطباق والشوك والسكاكين بنظام صارم وتناسق أخّاذ، يتوسط التورتة شمعة واحدة تضم كل أعوام الحب وضعف أحزان الفراق، ووضعت أمام طيفه الذي يستوطن هذا المقعد الخالي أمامها صندوقا أنيقا يزدان بحبات الكريستال المتلألئة على إطاره. تنظر إليه ديمة من حين لآخر، ثم أخيرًا تألق همسها فقالت: أنت لا تدري أن القاطن بداخلك هو قلبي وعمري كله. نظرت إليها متعجبًا ولسان حالي يقول: ماذا يحوي هذا الصندوق الذي قالت عنه ديمة تلك الكلمات؟!
لكني عدت أستمع متلهفًا لهمسها وهي تقول : هنا بداخلك أول حرف لنا أنا وآدم نقشناه بمداد الروح والقلب، هنا قصاصات من ورق مزقها آدم عندما عانده الحرف ذات حزن فلململت أشلاءها بقلبي وخبأتها بداخلك لأنها شيء قُدّ من روحه، هنا قلمه المفضل الذي كان يلازمه طيلة الوقت، تفاصيل حبه المحفورة باسمي، بداخلك تموج كل تفاصيله التي استودعتك إياها!
أنهت همساتها له ثم عادت إليَّ تقرأني ومع آخر نبض في حرفي ألقت برأسها على وجهي حتى غفت، فأتاها محملًا بألوان الفرح، تكسو ملامحه الطمأنينة والأمل، يهمس إليها: ديمة.. ديمة..
فقفزت ديمة كطفلة لمست قلبها فرحة يوم عيد. وهمست في فرح قائلة: آدم.. آدم... أنت هنا.. أنت أتيت. انتظرتك كثيرًا يا آدم، ألم يجذبك الحنين للسؤال عني؟
انظر.... هذه المنضدة الصغيرة التي عاشت معنا طيلة همسنا صارت بقعة الأمان التي تبعث الحياة وتحيي الذكرى في روحي بعدك كل ليلة. وأنا لا زلت على جمر الحنين أتململ، لكن الحمدلله أن الله مَنّ علىَّ برؤيتك اليوم.
كل عام وأنت الخير للخير،كل عام وأنت بي! ربت على قلبها وهدهد روحها ثم همس قائلًا:
ما فارقتك أبدًا ديمة، إني معكِ...
ثم أفاقت وهي تردد: آدم.. آدم
حتى أيقنت أنها كانت رؤيا عندما أيقظها من حيرتها صوت جرس الباب، فهرولت مسرعة، فتحت بلهفة، فإذا بأحدهم يقول لها: سيدتي ديمة؟
ردت : نعم
قال لها: هو استودعني هذا، وقال لي إن أوله عندك وآخره عنده.
ردت عليه باستغراب : ماذا تعني؟ ومن تقصد؟
مد إليها يده بكتاب خُطَّ عليه "أنت بي الجزء الثاني".
تلعثمت قائلة: آدم.. آدم.
التقطت منه الكتاب بقوة ودموعها تنهال كإعصار يمطر في قلبها نور ونار.
تضم الكتاب إليها، تتنفس رائحته علّها تحوي شيئًا من شذاه، تتحسس أوراقه، تهدهدها برفق وتبكي، كأم انفطر قلبها لفراق وليدها ثم جاد القدر عليها فرده إليها غير آبهة بهذا الواقف أمامها، الذي هاله وأفزعه ما رأي فتولى من حيث أتى.
أغلقت ديمة بابها، ودلفت بخطىً متثاقلة. انتفضت ثائرًا، ما هذا؟ ما الذي أراه؟ كيف لديمة أن تحتضن كتابًا غيري! ارتجف نبضي فزعًا لما رأيت، لكني أشعر أن هنا في قلبي نبضًا يزلزلني، يدق الحنايا ويجتاح جُدر روحي، هذا الذي بين أحضان قلبها يشبهني، يشبهني تمامًا، بل هو أنا، أجزم أنه أنا!
اقتربت ديمة مني برفق ثم دنت بكل حب العالم وألصقته بوجه قلبي، فارتجفت كل ذرة في كياني وأنا أرتل عنوانه "أنت بي الجزء الثاني"،حينها شعرت أني اكتملت!
صرتُ مدينًا لكِ ديمة بكل معاني الحب وكل وجيب الوفاء.