أتيته على خطى الثقة، وملامحي يقطر منها الزهو، وجيدي يتثنى تيهًا لما أحمله في نفسي من ثناءٍ فاق الحد على نظمي للشعر، يؤطر خفقان قلبي شهادة حافظ وشوقي؛ فصفعني (المازني) بابتسامة فاترة يتسرب من ثناياها دخان الهزيمة وهو يهز رأسه ويزم شفتيه، فبادرته قائلًا:

ألم يعجبك شعري؟!

قال: نعم!

فرمتني الدهشة، وألقت بي في متاهات الحيرة، وحشرتني داخل حواريها، لكني آثرت الإصرار الناجم عن تلك الثقة التي منحها إياي كلام (حافظ وشوقي) في حق ديواني، وعاندته قائلًا:

إذن انقده

قال المازني: لا يستحق النقد!

فانقبض قلبي، وشعرت أن سماء خيلائي صارت عارية إلا من الظلام، واليأس قد استيقظ وفتح نوافذ قلبي على مصراعيها، ونهض متربصًا لأي ثغرة ينفذ من خلالها لإسقاطي، لماذا يعاملني بهذه القسوة؟ هل عليَّ أن أدفع ثمن جهلي قطعًا من روحي؟

استفقت من شرودي وهو يمنحني بعض الأمل بعد أن تدارك عظم فعله وأثر كلمته؛ فشرع يضمد جرحي بضمادة عاجلة وهو يقدمني لصديقه (العقاد)

فشعرت أن رياح الأقدار قد ألقت بي على أفكار رجل هبط على الدنيا في الليلة الثامنة والعشرين من سدرة حزيران الوارفة بأغصان الذكاء وأوراق الفطنة والأناة، يستند إلى ثلاثين ربيعًا مكتظين بكل ألوان الحياة، ينزع روحه قسرًا من صفحات الأدب كلما حاول أحد اقتحام خلوته دون سابق تأهيل من نفسه لذاك اللقاء، قوامه ممشوق، ترعرعت على وجهه مسحة سمراء خفيفة مشوبة بالعزة، منحتها إياه شمس أسوان المتفردة بالدلال على أبنائها المنتسبين إليها،

وأكسبته وقارًا دعمه عمق عينيه الدعجاوين، وكأنهما بئران يضطرمان بالشغف، يشع منهما بريقًا نافذًا يسلبك بلا وعي إلى معاني الإحياء؛ لإنعاش ذهنك المتيبس، وغسل أفكارك المنحورة بين كل مسافة آثمة تقطعها روحك مع الحيرة والشك والظنون، فتعود نقية بريئة من أدران الفكر المبتذل، ناصعة تملك مساحات عذراء رحبة من السمو والسلام، لم يغتالها غل، أو يجتاحها حقد أو حسد، أو تنزوي في خرابها الشكوك كالمياه الراكدة أو الرماد الخامد الذي إذا أثاره غبار الغبن أو ابتلي بريح صرصر عاتية من ظلمات التزلف والزيف؛ فارت بداخله ونثرت دخانها داخل أنفاسه فاختنق بها. رجلٌ إنساني يجمع بين مشاعر الفكاهة، والمرح، والاتزان، والجد، والصراحة؛ فيستفز فيك ملاكك وإنسانيتك، ولن تغادره إلا وأنت قد خلعت عن قلبك وفكرك تلك الصورة المتجهمة والمتغطرسة القاسية التي نسبوها إليه أميين الحِس والقاصرين عن إدراك النفس.

لكنه لم يحرك ساكنا غير أنه رد تحيتي بأحسن منها، وانصرف إلى كتاب كان في يده؛ فقد كان عقله لا زال مفترشًا لسرير النقاهة، بعد أن نهش المرض روحه، وأكل الوهم والخوف عافيته،

في تلك الفترة التي اضطره فيها المرض أن ينسحب من عمله في صحيفة الأهرام؛ فوقفت الوزارة آنذاك دون عودته للصحافة، وأخذت تساومه وهي تعلم بمرضه وحاجته للمال، ولكنه لم يقبل رغم أنها بلغت ألفين من الجنيهات لا يملك منها العقاد إلا قروشًا لا تسمن ولا تغني في مثل حالته.