في عيون القدس الدامعة الواسعة بسعة الكون، أمٌّ تغزل عناقيد وجود طفلها على نوْل قلبها المفطور، تلتقط صورًا متفرقة له وهو يركض في فناء براءته، وتطعم روحها من منابت شغفه وهو يتحدى أقرانه بالفوز عليهم عند اللعب، تملأ عينيها بضحكاته وقفزاته وسكناته واضطراباته وفي داخلها أمواج الخوف تتلاطم، ورياح الفكر تقصف ما تبقى فيها من ثبات. وكأي أم تطهو صنوف الزاد، وترش عليه ألوان الحب، وتحيطه بالدفء، وترقب أطفالها على عجَلٍ من عين الشرفات حتى تطعمهم الطعام ساخنًا قبل أن يسكنه البرد، والبرد في أحشائها يرتعد من ليل طويل منسوج على وتر الخوف وقمره يرتجف من هزيم القصف، حُسن المباني المطلية بالجمال والجلال سقط بعد أن ذابت تحت أحجارها آمال طفل مشروعة على جبين الحلم، وسكنت أحشاءها جِذوة الصبا في ليلة عرس مقبورة، والأم قلبها صار فارغًا إلا من يوسفها، تهرول بين جزعها وفتات الأمل سبعة أشواط من الوهم وهي تشق خرس الأمهات بصوتها المنحور داخل حنجرتها المشروخة قائلة:
- يوسف، عمره سبع سنوات، يبلغ من الحسن أكمله، ومن البياض أصفاه، شعره كيرلي مصبوغ بلون الشمس، حديثه دافئ رنَّان كمعزوفة ساحرة تهادت من الفردوس تأسر الآذان، وتسحر القلوب، وتجذب العيون، الطلة في مُحياه تغسل القلوب وتوضئ الوجوه من أدران الحياة.
يوسف.. يوسف..
الآن يا يوسف، مَنْ سيرخي سدول الصبر على وَلَه النوافذ كل صباح حين كانت تلثم قلبك بدعواتي، وتمطر ملامحك بقُبل الوداع عند كل غياب؟ مَنْ سيسقيها رحيق الطمأنينة ويرويني بعد طول انتظار على ناصية القلق دون عناق أو ضمة لقاء تحيي موات الأرض الخراب؟
والأخ يتعلق بأنامل أبيه، يتلمَّس بين رجفتها ولهيبها ومضة من أمل وبعض أمان، ويرجوه باكيًا:
- بابا، بدي يوسف.
والجواب على ألسنة الفقد يتلوَّى كالنيران في عين أبيه.
ويمر يوم.. يومان.. ثلاثة، ويحتمي الأخ في ما تبقى له من أخيه من أثر، فيغرق في دهاليز الذكريات حتى ينسى أنه فارق، أو يُخيَّل إليه أنه على قيد الحياة، فيظل يناديه ويحادثه ويمزح معه دون إشراق لشمسه على صدره، يتنهد قائلًا:
- لا بأس.. لا بأس، سألقاك قريبًا في مقعد صدق عند مليك مقتدر.