لم يعد القيد في عصرنا سلاسلَ تُرى بالعين، ولا جدرانًا تُغلق الأبواب. لقد تبدّل شكله حتى صار ألين من الحرير، يتسلل من خلف الشاشة إلى داخل وعينا، فيغدو الإنسان أسيرًا وهو يضحك، مُقيّدًا وهو يظن أنه في فضاء لا متناهٍ من الحرية.
إنها خوارزميات التصفية والتوصيل في منصات التواصل؛ عقل خفي يترصد خطواتنا الرقمية، يدوّن ما نحب وما نكره، ثم يعيد صياغة عوالمنا وفق ما جمعه عنا. لا يفرض رأيًا بالقوة، ولا يُملي أمرًا علنًا، بل يُغدق علينا قطرات من لذة سريعة: مقطع يثير فضولنا، إعلان يلامس رغبتنا، أو خبر يؤكد ما نؤمن به. وهكذا نعيش تحت وهم أننا نختار، بينما نحن في حقيقة الأمر نُقاد.
هذا الوهم هو أخطر أشكال العبودية الحديثة؛ لأنه لا يُشعرنا بالقيود. فالإنسان يظن أن وفرة الخيارات تعني حرية، مع أن تلك الوفرة ليست سوى حديقة مصطنعة بأسوار عالية، لا نرى حدودها لأننا مأخوذون بجمال زهورها. الحرية لا تُختزل في تعدد الأبواب التي تُفتح لنا، بل في قدرتنا على أن نسلك دربًا لم يُرسم مسبقًا، أن ننتقي معرفتنا من منابعنا لا من جرعات معدّة خصيصًا لنا. الحرية أن نُبقي الخوارزميات خادمةً لأفكارنا لا سيّدةً على وعينا.
ويبقى السؤال معلّقًا: هل يملك الإنسان من الوعي ما يكفي ليكسر هذا الطوق الناعم؟ أم سيظل يطارد لذّاته الصغيرة، حتى يستيقظ ذات يومٍ ليكتشف أن المتعة التي عاش لها لم تكن إلا قيدًا آخر يحرمه من حريته الحقيقية؟