بلسانٍ متثاقل تختنق على طرفه الكلمات، وروح أوشكت أن تلفظ أنفاسها مع لعثمة البوح قال:
صار قلبي مقبرة للحزن في بعادك، بعدما كان محرابًا تُرتل فيه كل ابتهالات الحب، وتتألق فيه أضواء الحياة، والآن بعدك سلبني لذة العيش، وطوقني بحبلٍ من مسد الشوق يحرق ذاتي، كاد جنون اشتياقي إليكِ أن يمزقني؛ فمكاني حيث أنتِ، وموطني في قربك، والونس في صحبتك، والأنس في جوارك، والسكن كل السكن، والحياة كل الحياة عندما يتحرر ذاك الطفل الذي في داخلي؛ ليركض ويلهو في روابي جنتك ولا يبالي، فهلا أطلقتِ سراح أبواب قلبك الموصدة، وسمحتِ للهفة أعذاري بالمرور؟
تنهدت لتفرغ من صدرها رماد ذكرياته المحترق داخلها، وتخلت عن صمتها وصبرها قائلة:
يا سيد الكلمات..
حديثك الشائق هذا تدفق كالشلال الهادر إلى شراييني فأشرقت فيني شمس الحياة، كالبلسم الشافي لكل ندوبي وهزائمي المنحوتة في جدار عمري، الذي تصدع من ضربات المحن والخذلان، كآخر نبتة أمل تجاهد أن تبقى؛ لتنير ظلمات روحي..
وقبل أن تتدلل الابتسامة لتتهادى في خيلاء على ثغره عاجلته قائلة:
وهل تنحني أنفة الروح، وعزة القلب، وكبرياء الهوى لقلبٍ أفلت شقه، وتركه خاويًا في وادي الغياب بلا مأوى ولا سند؟!
أنا لن أقول أو أصف كما يقول فقهاء الهوى:
"ذاك تقلب الود بعد أن خبا وهج المحبة"؛
لأن القلوب مفطورة على التقلب وذاك قدرها، لكن المبادئ ثابتة لا تتقلب، وإن هانت القلوب لن تهون عند معتنقيها.
خرج من ثورة ذهوله وثار صامتًا:
ما بالك يا عنيدة.. يا غريبة، حملتي أفكاري على وجهكِ مثل ثائرٍ تائهٍ ضال من ألف عام في ميدانٍ خالي من البشر إلا من بقايا فوضاي، وشراع هالك ممزق من أمل واهن، وبعض من حكاياي وقصصي الهاربة؛ لتتجاذب معكِ أطراف المعاناة!!، وأحبار أشواقي المختبئة في ليالي عينيكِ..
ليتكِ قذفتي بثورة نظراتك الصارخة داخل قلبي، ورميتِ غفلتي بآلاف القصص والأشعار الغاضبة، وألقيتِ على رأسي بحممٍ من التساؤلات بدلًا من ذاك الصمت القتال؛ لعلكِ تجدي جوابًا شافيًا لظنونك المائجة. أمد إليكِ قلبي وفلسفتي فاردًا جناح الحب والرحمة والاستسلام أمام أهدابك الساجية!
خبريني.. كيف خبا الحب في اعتقادك؟!
أما علمتِ أني ملأتُ روحي منكِ، وادخرتُ من نقائك وملامحك ومعانيكِ زادًا يعينني في رحلة عراكي مع الحياة، في وجودك تتلاشى أفكاري اليائسة؛ لتذوب داخل أعماقك ثم تخترق قلبي كنسمة صيفية تأسر وجداني وتُضيئني بالأمل وتُشرقني بالحياة، فمن لي غير حناياكِ أبعثر فيها غضبي، وأخبئ فيها خوفي وألمي، وألقي بغربتي ووحشتي وحزني بين لهفتها وصمتي، والآن أجيبيني:
كيف تاه الحب؟!!
اشتعلت ثورة عينيها ثم صرخت ساكتة تهمهم بصوتٍ خفيض:
يزعجني ذاك الفكر وتلك السفسطة التي تأسرك، وتضرب بأدب المحبة عرض الحائط!!
المحبة هي (الروح)، وأي شئ بلا روح يدون في عداد الأموات، وأي نابض على وجه البسيطة لن يستطيع إتمام عمل ويبرع فيه إلا بالمحبة؛ فالمحبة ليست قاصرة على شخصٍ أوحد، بل غزت الحياة بكل ذرة فيها، وبها أقيمت الدنيا، المحبة منحة ربانية نعتز بها ونفخر ونشكر ربنا عليها؛ فقدِّم للمحبة الولاء واللهفة والأعذار والاعتذار!
تبسم ضاحكًا من فكرها وهمس صامتًا:
الآن أدعوكِ وحيرتك إلى طاولة التيم؛ لنحيي شعائر الحب، ونتسامر على وهج أفكارنا المشتعلة بصنوف الأدب وروعة البيان..