طعنات الآخرين لم تكن أبدًا جروحًا تمشي في ملامحنا، أو مقصلة قاضية تقدم قلوبنا أضحية تنزف على السطر في يوم عيد للحرف بقدر ما عاشت فينا كرسالات لطف ورسل فقه ووعي تفتح لأرواحنا سبل الغوص في أعماق النفس البشرية، واستخلاص الدر الكامن من الزبد والزيف، ثم تلقي بنا بين ذراعيِّ الأرض؛ نتحسس اللطف من أصلنا الذي هو مزيج من الطين وروائح الثرى، فنخفض هامتنا طويلًا لله في سجدةٍ ودعاء تنحل بهما عُقد الحزن، وينهدم جدار اليأس، ويرحل الهم إلى حال سبيله.
يقول الله ـ عز وجل ـ:
(لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)
وإن كان تفسير الآية يخص شيئًا آخر، لكننا نعلم أن كل بذل من سعة النفس يندرج تحت مسمى الإنفاق،
فإذا خصك الله ـ سبحانه وتعالى ـ من بين البشر أجمع، واصطفاك أنت دون غيرك لأمرٍ قد خصَّ به نفسه سبحانه- فهو الجواد الكريم العاطي الوهاب- لتنفق من سعة روحك، وقلبك، وعمرك، وعافيتك لأجل عبد من عباده، لحاجته التي لا تخفى على ربه؛ ليجازيك خيرًا في نفسك وحياتك وآخرتك، فتظن أنك فعلت ما فعلت بدافع الصلة ومسمى المحبة، أو أي شيء آخر.
أنت فعلت؛ لأن الله هيأ نفسك وأعدها لتسع العطاء والمنح والمساندة والإنفاق، لا لأنك تحب أو تريد، أما الآخر، فربما جحد فضلك وخيرك؛ لأن نفسه ضيقة لا تسع الإحسان أو الوفاء، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فلا تبتئس ولا تحزن، فيكفي أنك كما أنت،
ألم يكفِك أن الله من فوق سبع سماوات قد نظر لقلبك، وأحيا بداخلك سدرة الخير فأينعت وفاضت بنفقاتها على العالمين؟!
فما ظنك بربٍ قد أنزل بعبدٍ من عباده الأمر العسير، واصطفاك أنت ليجعلك لطفه في أرضه، ويجعل جبر الآخر على يديك؛ ليجعل لك زلفى عنده وحسن حياة في الدنيا والآخرة، ويدخر لك فعلك لأجَل هو يعلمه؛ ليأتيك على ضعفك بأغرب سبب، وعن طريق أغرب غريب لقلبك، ليجعل جبرك على يديه،
ويمضي في روحك كعابر سبيل، تاركًا فيك بعضًا منه، وآخذًا منك عبق أثرك وطيب مرورك في نفسه؛ لينهض الخير من غربته وندرته، وتنتصر الحياة.
امضِ في سعيك ولا تلتفت لشطحات النفس حين تكبلك كلك بصفاد الانتصار لحقها المزعوم، وجاهد هواها بالعكوف في محراب الصلة والمعية، وتناسَ آثام الخذلان، وقر قلبا.
أنت رائع في كل فورة بُعثت فيها الأنا من رماد الأثرة، واضطرمت لتؤجج في قلبك رغبة الاستحواذ والانتصار لنفسك، وتغذيتها برفات الغيظ المكظوم داخلك، فأخمدت جذوتها بوابل من الاستغفار المعبق بالصفح الجميل، والإعذار المغلف بالتغافل والإحسان.
أنت رائع..
في كل كسرة مزعت قلبك، فربت على جزعه بسلوى اليقين والظن الحسن في رحمة رب العالمين، واجتهادك في تحسس المنحة واللطف الخفي الكامن في باطن كل بليَّة.