نهر الحياة يركض برذاذه داخل دهاليز أمة مغلوبة تجرعت ألوان الذل والهزيمة مرات ومرات، ويسافر برائحته المنعشة عبر متاهات تجاعيدها المنهكة، يحاصرها بموجه اللعوب مطلقًا سراح الفتن في دربها المُعَبّد بالجهاد والابتلاءات؛ ليستخلص قائدها بفراسته وحكمته الصفوة المختارة وينحي الزبد جانبًا، ويستخرج الدر الكامن من أعماق المحن،
والإرادة الصامدة التي ينضبط أمامها ميزان الهوى، ويجثو الصبر لثباتها راكعًا، فيكون صاحب هذه الهمة مسدد القول، صائب الرأي، صادق العزم، لا تغره الدنيا فتستعبده ، ولا تستدرجه الشهوات فتذله، بل يصمد أمام الحرمان والكبد، ويستعلي على الحاجات والضرورات، ويؤثر الطاعة، ويتحمل مشاقاتها، يعقل الأمر ويعي قدره، ويتوكل على ربه، وليس كمن اشتعلت في نفسه جذوة الحماسة الفائرة، فأطلق العنان للسانه وطلب الجهاد ثائرًا في ساعة من رغد، وفسحة من رخاء، حتى إذا جاء أمر الله نكص على عقبيه وركن إلى الوهن.
مثلما فعل ذلك الجيل المتمرد بعد موسى عليه السلام؛ فسلط الله عليهم جالوت جبارًا طاغية أخرجهم وأبناءهم من الأرض المقدسة؛ فندموا على عصيانهم وتفريطهم في مقدساتهم، وهرعوا إلى نبي لهم يستجدونه أن يسأل الله سبحانه وتعالى أن يختار لهم ملكًا يقودهم للقتال، لتخليص الأرض المقدسة من أيدي الأعداء، فقرأ في عيون بعضهم لفتات الوهن المغموسة بآفات التمرد على أوامر الله وعصيانه وقال:
أنتم الآن في سعة من الأمر، أما إذا استجبت لكم، فتقرر القتال عليكم، فتلك إذن فريضة مكتوبة، ولا سبيل بعدها إلى النكول عنها، فأخذتهم الفورة وقالوا:
لا معنى للجدال الآن ، ولا مقام للمراجعة، فقد أخرجنا من ديارنا، وسبوا نسائنا، وقتلوا أطفالنا؛
فقال لهم نبيهم:
(إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا)
وكعادة بصيرتهم المغبشة، وفكرهم المحدود قالوا:
نحن أحق بالملك منه بالوراثة، فلم يكن من نسل الملوك، ولم يؤت سعة من المال!
فرد عليهم نبيهم:
الملك ملك الله، وفضله يؤتيه من يشاء من عباده، هو اصطفاه بحكمته، وزاده بسطة في العلم والجسم، وهو الأعلم بالخير، وما يصلح لعباده.
وهنا تتجلى حكمة الله في اصطفائه لذاك القائد العظيم (طالوت) الذي علم أنه مقدم على معركة ومعه جيش من أمة مغلوبة في مواجهة جيش من أمة غالبة، إيمان تجاه كفر، حق لابد أن يزهق الباطل ويمحق خطاه، ودعوة إلى الله لنصرة أوليائه المؤمنين على أعدائه؛
فكان على القائد المختار أن يختبر إرادة جيشه وصموده صبره فقال:
(إن الله مبتليكم بنهر...)
هنا إقرار بأنه إكسير الحياة الذي يروي ظمأهم، ويشبع نهمهم، ويرد لهم عافيتهم، لكنها حياة بلا قرار ولا هناء إذا كانت في مخالفة لأمر واهب الحياة،
فشربوا منه إلا قليلا منهم، إلا القلة الصادقة التي آثرت مراد الله ورضاه على مراد النفس وهواها وضعفها؛ فأفرغ الله على قلوبهم صبْرًا، وسقاهم اليقين ترياقًا، وجزاهم النصر على قلتهم فضلًا منه وإكراما، فقامت دولة إسلامية عاصمتها بيت المقدس، وكان ذلك هو العصر الذهبي الذي تهيأت فيه الأرض المباركة وتزينت لترفل في ثوب التمكين والعزة بعد الهزائم والتشريد الطويل.
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ۚ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ ۚ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۚ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
-
من وحي كتاب الطريق إلى بيت المقدس للدكتور جمال عبدالهادي