هذه العظام حصاد أيامي.... فرفقا بالعظام
قد يموت الإنسان وتبقى كلماته إلى الأبد تعانق الأحزان, وتتشح بسواد علم عليها, تبقى الكلمات تضرب في حنايا الزمن, فتدمي منه الجباه, ويتساقط الدم على الوجنتين, يحكي قصص موجعة, خطا به الزمن سطور عار على الحياة الغادرة, بمن أرادوا لها العفة والطهارة, وأن تسود المساواة والعدل أرجائها.
كان نجيب ذلك الفارس الذي أنتزعوا منه جياده المطهمة القوية, أنتزعوا السيف من يده, واقتلعوا لسانه من أعماق حقله, ليُخرسوا الفارس, وألقوا به في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية, وأدوه حيا, وأهالوا عليه من طغيانهم ما لجموه به, قيدوه وعذبوه في أعز ما يفخر الإنسان به, عقله ووجدانه, كان الفارس يمشي على أرض الخديعة, مهلهل الثياب, مشعث الشعر, حافي القدمين, تاءه في أرض الذئاب, أغتالوه, لكنهم لم يسطيعوا أن يغتالوا كلماته, بعد أن ألقوا بلسانه طعام لكلاب الشوارع, أهكذا يعيش من يريد للإنسان العدل في الأرض.
عاش نجيب سرور في طفولته في قرية أخطاب, وهي ككل القرى لها نظام واحد, وطريقة معيشة متشابة, إنهم يعيشون على هامش الحياة, إنسان من الدرجة الدنيا, حيث يمتصون دمائهم أثرياء الوطن, وعرقهم مبذول لرفاهية أسيادهم من ذوي النفوذ والسلطان, في هذه القرى ترى البؤس ماثلا في وجوه الناس, حيا يرزق, يعايشهم, والشقاء يبتون فيه ويصطبحون به, وليس لهم إلا العصا لمن عصا منهم, القهر والجبروت سفيا مصلت على ظهورهم, كلما أعتدل منها قامة, فعاد سريعا إلى الركوع والإنقياد والطاعة, والعمل الذي لا ينتهي إلا بالموت والخروج من الحياة, شاهد ذلك بأم قلبه وعقله, فتمرد على أن ينقاد مع القطيع المساق بالسوط, أراد أن يعيش إنسان, أن يكون له كرامة, أن يصلب طوله أمام الرياح, ليجابه الحقيقة, ويطلب شيء هو من صميم إنسانيته, فلا عدوان عليه, إذا يطالب بحق هو حقوقه, ولكن يد الطغاة لا تريد أن يكون لأمثال هؤلاء عين ترى الحقيقة, وـن تظل تلتصق بالأرض, ولا ترى نور الشمس, وأن تظل في الظلام, تقتات عليه ومنه, طاردته أيديهم, حتى ألقت به في غياهب الجنون والوهم, فلهم جنود وأسلحة وأيدي طائلة, ألقت بالشاعر في براثنها وخيوطها, وأحكمت عليه حتى قضت عليه, ومات ولم تمت كلماته, ورحلوا ورحل, ولم يبقى منهم شيء سوى سوء الذكر, وبقي هو فارس على عرش الكلمة تخلده.
كان نجيب سرور ذلك الشاعر الفارس, منذ صغره, مر الكثير من الصبية بما مر به شاعرنا الصغير, ولكن تلك الأحداث لم يكن لها نفس الوقع على عقله وخواطره, إنه مرآة شديد الصفاء, تعكس بكل دقة ما تجابهها, تلتقط التفاصيل بكل وضوح, إنها شفافية النفس, حين تتأثر بما يجري حولها, كانت رؤية نفس تأبى الظلم, وتحب العدل, وتعشق المساواة, تألمت وكان ألمها شديد للإنسان ومن الإنسان, كيف يصدر منها كل هذا الكم من الظلم؟ وهي أيضا تتحمل منه أضعاف دون أن تثور وترفض, وتحاول موازنة الأمور, تكالبت عليه المظالم عام بعد عام, حتى فاض الكيل, ولم تعد تحتمل المزيد من هذا الظلم, فثارت أمام الطغيان والتجبر, فما كان نصيبه إلا المزيد منها.
عاش الشاعر الصغير, يقرأ ويلتهم الكتب والعلم, ويسعى جاهد ليغير واقع ميت, منذ ألاف الأزمان, تحركت فيه غريزة النضال, فقضى عليه نضاله في نهاية الأمر غير مأسوف عليه, من أحد, حتى شردته في الشوارع.
في كتابه أو روايته فارس هذا الزمن, قص علينا الشاعر ما حدث له من أمن الدولة ومطاردته, وما ناله من عذاب على أيديهم, وما بين الحاضر والماضي, تدور أحداث الرواية, لتحكي لنا مأساة إنسانية منذ عهدها الأول بالحياة الإنسانية, التي تفخر بالعقل وبالسيادة على الأرض, وإنها أشبه بعالم إنساني مقنع, هي غابة لا أكثر, ترتدي زي إنسان, ويختبأ خلفها وحوش ضارية, يلتهم بعضها بعضا مع الفارق, إن الحيوانات من جنس واحد لا تفعل ما يفعله الإنسان لإنسان مثله من بني جنسه, فقد فاق الحيوان في الوحشية حين يستعبده, ويجعل لبعضهم البعض عبيد, تطارده الذكريات المؤلمة, ويمتد عذاب قلبه ونفسه, ولا قرار تتشتت أسرته, ويحرم من زوجته وابنه, ويعيش في بلده غريب مطارد, تنتقم منه على رغبته في يعيش إنسان حر وأنا يكون لكل فرد من بني وطنه نصيبه من الحياة الكريمة, بعيدا عن ممارسة القوة ة والسلطة في فرض عيشة, يهنأ فيها الأغنياء بطيب العيش, ويهلك فيها الفقراء بفقرهم, أفي ذلك تجني ليس في ذلك إلا عدالة, وأن ينال الجميع حقوقهم على قدم المساواة, وبقدر أعمالهم تكون الثمار التي يستحقها كل منهم.





































