كانت تريد أن تكون إنسان, لا جسد تحترق بنار شهوته, كانت تبحث عن النبض, عن النار التي تشعل القلب, وتوقظ الفكر, وتبقى حامية, تزلزل تيار دمائها, لمحت في عينيها حيرة عظيمة, كانت تريد أن توقظ الحب في أعماقها, لتكون إنسان, سئمت أنوثتها, وما تجلب عليها من ذباب يتكدس على حوافها الأنيقة, وتجلب إليها الماء العكر على ضفيتها, قرأت ألآف الأغنيات, المقطوعة الألحان, الغير مكتملة, مبحوحة الصوت, عينيها الراحلتان في عالم الليل, الهائمة في كبد السماء, كانت تائة, تتنفس بصعوبة شديدة, أنفاسها تتهدج, تريد أن تصرخ, لكنها تعلم مسبقا أن أحدا, لن يسمع, فتؤثر البقاء صامتة مكبوتة, مغرورقة العينين, إني سمعت هذه الصرخة, دون صوت, في إهتزاز شفتيها الضعيفتين, كانت تبحث في عيون الأخرين, عن إنسانيتها, عن الماهية, عن القيم فيها, كان الحزن يتشعب فيها, ويمتد حتى وصل أطرافها مقلتيها, أهدابها, كانت تبحث عن ذلك الحضن الدافيء, التي طالما بحثت عنه, ولم تجده, وقد أرقها البحث, وكلت قدميها, وأوشكت أن تفقد الأمل, وتؤمن بأن لا إنسانية في عالمنا, وأننا جميعا وحوش, على هيئة بشر, وأنها كانت واهمة, حين ظنت أن في الأعماق أشياء لها معنى, ولكنها فقد المعنى, شعرت أن الأمل, بدأ يتسلل إلى نفسها, وأن هناك من يحاول, أن يستخرج ذلك الكنز الرابض هناك, الخفي عن العيون, وأن ما راودها منذ سنوات الصبا, حقيقة لا خيال فيه, وإنما قد يكون واقع حي, يتحرك في عالم البشر, وأنها بالفعل قبل كل شيء, أسمى من أن تكون جسد له خوار, يستميل الأخرين لعبادته, , قالت لي أنني أحب الربيع, الأشجار حين تعلوها الأوراق, والأرض تنتشر فيها الخضرة, على إمتداد العين, ثم تنفذ إلى الخاطر, تكسوه بالحب والجمال, هل تحب الربيع؟ هكذا سألتني, قلت لها: إن لها قلب شاعرعاشق, أن تهتز لرؤية الجمال, أن تعيشه, ويمتد حتى يملأها, فهي بالطبع إنسان, سكتت قليلا, وأشرقت مقلتيها, وفترت شفتيها بإبتسامة, كست ملامحها فرحة كبيرة, كانت سعيدة لأني رأيتها من الداخل, وأن وجهها كان النافذة, التي أطلعت منها على عالمها المجهول, كانت تحب أن يراها أحد من هذا الجانب, من أعماقها, كانت في حاجة أن يذكرها أحد, إنها إنسان, وليست أنثى فقط, ودت لو قبلت يدي, لأني منحتها فرصة الشعور بإنسانيتها, التي يبدو أنها فقدت الشعور به, منذ زمن بعيد, كانت الكلمات لامست قلبها وروحها, كان شرودها فيما آلت إليه واضح, وما أخذها إليه, إنها أنتقلت من عالمنا الحاضر إلى عالم أخر, كانت ترغب في الذهاب إليه, لم تدري ماذا تقول؟ فالكلمات توقفت على لسانها حائرة, ليس في قاموس كلماتي ما يقال ما أشعر به, في هذه اللحظات, لكنها ودون أن تدري أيضا نقلته, دون كلمة, نقلته بإستفاضة, بلغات كثيرة, وبلهجات أوسع, نقلته في لمحات خاطفة, وصلني ألآف المعاني, التي تهت في معانيها الزاخرة, ما كل هذه التعبيرات, إنه لم يكن إلا شعور أحست به, فنطقته بلا كلمات, كان ردها موضع إستغراب مني, من كثرة ما أكتسح ذهني من فكر وشعور, إنها كانت كصحراء قاحلة, فإذا بالسماء تهطل, والسيول تفيض, وتخضر المساحات الشاسعة, بعد ظمأ دام لسنوات, بل قرون, مئات السنين, حتى تشقق كل شبر فيها, وهي الأن قد أرتوت بلا حساب, حتى فاضت, تحولت في غمضة عين إلى بساتين وحقول, وأشجار باسقة, أبتلت عروقها, جرى فيها دما دافئا, أن تكون إنسان, تتعامل مع المحيطين, على إنهم بشر, وأن تنحي الجسد بعيدا, أن يكون حسابه في الدرجة الثانية, وأن يكون للروح المقام الأعلى, أن تتخلص من ذلك الشعور, الذي يحسبك نزوة عابرة, بدأت أشعر ألآن أن هناك ما يستحق أن نعيش من أجله, أن نحب, أن نستنشق قوارير العطور, وأن الحياة بدونها, هو أمر مستحيل, أن نخدع أنفسنا, حين نحاول أن نقنعها بأنها من الممكن أن تحيا دون أن تحيا.