إنها الأيام التي تبعث على الملل والضيق, حين تعود كل مساء, بما فعلته بالأمس وأول أمس, روتين خانق, لقلب تعس لا يقدر على التحرر سجن ذلك القفص من العظام, يبعث في كل عضو بما يتدفق منه من دم ولا شيء يحمل ما يحمله, ولا يشعر بما يشعر به, كأنها أحجار صماء صلدة, الحياة بالنسبة لها أن تتجدد دون أن تعلم لماذا, حتى لو كانت الروح ميتة, لو أتوقف ساعة عن العمل لانتهى كل شيء, تتوقف الحياة عن المسير في الجسد الخرب, المقتول منذ أزمان, ولكن لا ضرر في أن دب فوق الأرض الأرجل العرجاء, أنطفأت أنوار الحقيقة كلها في دروب الشهوات, التي لا تعرف أن تستكين يوما أو تعلن الاستسلام, إنها تمحو وتمحو وتظل تعمل في طمس ذلك النور, حتى ينتهي إلى لا شيء, رحلة المساء من كل يوم هي رحلة الموت, الذي يتكرر كل مساء سلسلة الظلمات, اللا متناهية, المقتول على مذبح الحقيقة, النور المنطفأ السكون المتوغل, واليأس الطافح على زبد النهر, يقظة الإفلات المنتهية, الهروب من الساحة إلى ضيق الجحور, اليتم المتوطن في عرض الحياة, تتقاذفة على الرؤس, الألسن الخرساء, العبث القادر على البقاء, لمئات السنوات يكبر وينمو حتى يصير جسرا للفناء دون أن تخربش يديه الثقيلتين على الأجساد الجرداء الخاوية المفرغة من معاني الوجود, تتسلق بنا إلى جحيم لا تهدأ ناره, ولا تهمد أوارها التي تشعل فتيل الإجرام, توقظ القبح, والنفور, ومحاولة النجاة من درك أسفل إلى درك أعلى, لكنها تظل تبكي بلا عين, وتصرخ بلا صوت, وتدهس بعماها المعاني, ليظل الظلام يكسو على النهاء فالخروج من بئر جاف, وقعنا فيه بئر عميق, هوشيء مستحيل, يزورك الموت ينهش من لحمك, وبعد أن يقترب من النور, ينهش مرة أخرى, وما بين ذا وذاك, تمضي بنا مثقلة بحمم بركانية, تلتصق بقاع النفوس, تدار حولها الكئوس مترعة بالغيم والضباب, فالجريمة قابعة في الأعماق مغروسة في القلب, خنجر حاد يحفر الشقاء أخاديد, تجري تسيل قيحا ودما أزرق, لكنها الفيوض تطفأ نار السنوات في لحظة, تمر الشمس من خلف ستائر النسيان, بوميض شعاع بسيط, يزول بعد لحظة إشراق, ويظل يكابد الظلام إنتشاره في القاع ثم لا يموت أبدا فينا.