- الحب وما تعني لك هذه الكلمة؟
-- أتراني أستطيع أن أحيا بدونها, الكل يبحث عنها, يعيش بها, يهفو إليها, يطلبها يجاهد من أجلها, يترقبها في كل شيء يحيط به, يتأملها ويسعى إليها, ويبذل في سبيلها كي يصل .
- يصل ...يصل إلى ماذا؟
-- يصل إلى اليقين, الذي يريح القلب من عناء, من قلق واضطراب, يصاحبه ويلازمه, حتى يفنيه إن لم يصل..
- أتعني أن كل إنسان فيه تلك الرغبة للوصول, أن يتخذ الحب مطية إلى ذلك اليقين المزعوم ..
-- إن الحب هو مرآة الوجود, معنى السعادة الحقيقي, إنه الثمرة الكبرى, وقود كل قلب, ليشع وينير ويضيء الطريق, لتسعى قدميه على بينة منه, لتتكشف أمام عينيك الأشياء, لتبدو كما ينبغي.
- فماذا لو لم يكن هذا الوقود؟
-- إنه العمى والظلمة الكثيفة, والتخبط في تيه عظيم, لا ضوء يلهم, فإن أضاء قلبك, فلعينيك بصر دقيق حاد ..
- لكني لا أرى مصداق ما تقول في الناس؟ فكلهم لهم قلوب, وأكثرهم ينشغلون عما تطلبه أنت, وتقول إنه ضروري؟ ..
-- لكل إنسان قلب, ولكل قلب وقود, ووقود قلوب الأكثرين, إنما هي النار والأحجار, هم يطردون الأعلى, ليحل محله الأدنى, يستبدلون الذي هو أدنى, بالذي هو خير, يتركون ما هو خير للشر يستفحل, يضّيقون منافذ الحب, ليوسعوا منافذ الكراهية, فتستحوذ على قلوبهم, وتمتلك عليهم مشاعرهم, فتصنع من قلوبهم صخور صلدة, لا تشعر, ولا تعي أي الخير يكون؟ تتوجه بهم بُصلة المشاعر إلى أشيا أخرى, تتملكهم مشاعر أخرى, الشهوة والأهواء, حب المال, الذي يطمس ويمحو, ويصيغ لهم دين أخر, وشريعة أخرى, تشبع أهوائهم الخسيسة, التي تفنى وتُفني, يلهثون وراء الصور والماديات, تاركين أرفع ما يتميزون به, يرتفعون به إلى مقام أعلى, إنهم ينحدرون, لا يرتقون, يجهدون أنفسهم في البعد, يمشون عكس عقارب الحياة الصحيحة, يموتون من أجل الفناء, إنهم يجعلون أجسادهم تماثيل يقدمون إليها القرابين, من متع الحياة, حيث لا تنفع, بل تضر, تشقهم أنصاف بشر, يعيشون بأنصافهم في رضا وعن قناعة, ولا تدري من ولهم بها, فالحب الحقيقي, ما يكون وقوده نابع من الباطن, من الروح, من أعماق القلوب, التي تعرف للحياة حقيقة أخرى غير حقيقة الجسد, ومعنى أخر غير معنى الظاهر, أنهم محرمون من الرؤيا, من إدراك ذلك المعنى, فكل حب منهم, يبدو قاصر محدود بحدود ما يتطلعون إليه, ما ينشدونه, وتسعى إليه أقدامهم, حب مؤقت زائل, وكل شيء زائل لا شك في ذلك, إنهم لا يرون المعنى الأبدي, لأنهم لا يبصرون بعين قلوبهم, إنما تتشبث أنظارهم بالجمادات, بالتماثيل التي تبدو على شيء من الجمال المنزوع من الروح, الجمال المصنوع من الطين ليس فيه خلود, أو بقاء, يوما ما يزول كما يزول كل شيء, لو أنهم أدركوا قيمة الحب الحقيقة, معناه الحقيقي, لبكوا كثيرا من فرط ما قصروا تجاهه, ولعلموا أن ما كانوا يلهثون ورائه إنما هو خداع, سراب كسراب الصحراء, الذي يبدو للعيون الكليلة, لأدركوا أنهم أتفه ما يكونون في ظل وهم كبير, كيف للإنسان أن يترك الأبد؟ الكمال, لينظر إلى الناقص الفاني, إنها حلاوة لا توصف, وشيء لا يتجسد, يأخذ على النفس كل طريق, ويحيطها بسياج من الجمال الأبدي, إن بحار الحب لا تعرف شاطيء عند هؤلاء, لا تعرف حدا, فهي متفحتة الجوانب, ثرية لا تنضب أبدا, فرق بين عالم كثقب إبرة, وعالم لا حدود له, بين حب وحب, وإدراك وإدراك, معنى ولا معنى ...أتدرك ما أرمي إليه؟ أتشعر بما أقول, ما أفكر فيه, وما يحسه قلبي الآن, لعلك لا تفهم أو تشعر, فتكون كالكثيرين الذي ضلت بهم الحياة, منهم من ضلت به في أول الطريق وأخرون في نهايته, وأخرون لم يروا ذلك النور أبدا, كأنهم جاءوا إلى الدنيا, ورحلوا كما جاءوا, دون نتيجة وخرجوا من حياتهم بقبضة من ريح الهواء, الخواء الأزلي, جاءوا وخرجوا كأنهم لم يأتوا بعد, إني أردت أن أعرفني, أن أضع قدمي على بداية الطريق الصحيح, الذي أصل به إلى ما أريد من الحياة, أن تعطيني حتى الثمالة, تغرقني في جوفها, تبسط يدها فأتلقاه بذلك الحب, وأقدم معه وردة كبيرة, تعبيرا عما يسكن هناك في قلبي, كان يجب علي أن أنوه بما أرى, بما أشعر به, أن أكون نبي الحب والجمال, أنشر رسالته للمحرومين, لضعفاء الأبصار والقلوب, إنهم يتوجهون بالعبادة لتلك التماثيل, أريد أن أصرخ في وجوههم, إنها لا تنفع, وأن أرتل عليهم من محاسن الحياة والحب آيات, أن أمسكهم من أيديهم, وأنطلق بهم نحو المعرفة الحقيقة, والحب الحقيقي, فإن أبوا, فهم وشأنهم, المهم أن أكون قد أديت رسالتي على أكمل وجه, نُسلمها للأبناء بيضاء واضحة, أأكون في ذلك قد أخطأت, لو يهدي بك الله رجل واحد, خير لك من دنياهم, بكل ما على سطح الأرض, هذا كان شعاري, أن أحب وأتوجه بالحب لمن له الحق, لمن يستحق, أنقب في زوايا الأرض على هؤلاء, لا أجد, فالقليل النادر المتناثر في بقاع الأرض, ممن تعذر أن تقابلهم وجها لوجه, فكان ألتقاء أرواح وقلوب, تنبعث من أفواههم هواء تحمله رياح الشوق إلى بلد بعيد, وكلما ناجيت نفسي بهذا, أستمعت إلى كائنات الأرض من كل باب, ظل الإنسان على عهده بالنسيان والفتور وطمس القلوب, أسفرت في نهاية الأمر عني وحدى, ثم هي تملأ الإنسان بفكر جديد, كان الزهد أول عتبات الصعود إلى أين ومن أين لا أدري؟ ولكني على العهد, بين رموزكم ولطالما طالت أيامه, كان الحب يتجذر ويتعمق ويحفر قنوات جديد, ويثمر فروعا أكثر وتكتسي الحياة, بهجة وجمال وتفيض من الوجود إلى الوجود, نفحات ونفحات إلى أن تملأ الأنوف بشذاها, تعطر الأرض والسماء, وتفوح في درجاتها إلى الملأ الأعلى, إلى الأقانيم العليا, يتبرّك ويعلو ويرتفع ويصل.
إن الحب تيار جارف يسوقني بالقوة, يحملني إلى الفضاء إلى خزائن النور, كيف أقاوم؟ أقف بيدي أجابه التيار الشديد, أقف في وجه العواصف, لم يبقى في جسدي مثقال حبة إلا ومسه من معين الحب, وابل أتحرق شوقا, أتقلب في العذاب, إنك لا تعلم ما يحمله الطريق, كنت أخاطب نفسي وأتجرع الآسى, أبتلع في فمي من المرارات, أستفيق على أن أني أصبحت غيري, عاشق بالإجبار, عاشق مكلف القلب والروح, نزل الوحي على قلبي, الذي باح, دون علمي, دون أن أعطي الإشارة بالقبول, لم يطرق بابا, لم ينادي, فجأة كان ينشرفي بقاع قلبي جنوده, يرتب شرفات روحي, يصيغ منها ما يشاء, كيف يشاء, حدقت فيه كان قلبا غير قلبي, أنظر قلبا جديدا, أتحسس, ياوويل نفسي وروحي, كنت أرقب السرب, أانزع نفسي منه, لكني كنت أنا الواقف على عتباته وحدي, أعاني ما قدمت يداي, وصوت من خلف حجاب, يملأ الهواء المحيط, لن تنجو لن تنجو, إنه النجاه المحققة, الغرق في لجة العشق, لا مفر, لا تحاول الفرار, سبق السيف فلا ترفعه في وجهه القدر.