قالت له يوما في مساء أحد الليالي الشتائية حين ألتقت به, وكان الهدوء يكسو الوجود من حولهما, فالبرد يدب في أوصالهما كما يدب في الحياة, قالت له: إن قلبه لم يعرف الحب يوما, وأن قسمات مشاعره جامدة, والجليد يغلف أطرافه كما يغلف مشاعره, وأن أحشائه كمنطقة القطب المتجمد, وأن الدفء لم يعرف طريق قلبه منذ زمن بعيد, وإنه يحاول أن يبدو وفي قلبه مشاعر متأججة, وأنه خاوي خالي من كل معنى رقيق, وأنه كصحراء جافة قاحلة, قالت له إنه لا يصلح للحب, وأن العشق الذي يظن أنه يسكنه إنما هو عشق عينيها, يبدو له أنه ينبع منه, والحقيقة أنه ينعكس من قلبها, وهي لا تدري لماذا أحبته؟ رغم أنها لا ترى في قلبه أي أثر لأي حب لها أو لغيرها, والغريب أن قلبه متوقف فلا يشعر حتى بأي كراهية, وكل محاولات إنعاشه هي محض عبث, إنها تعرف ذلك منذ وقت طويل, وقد خدعها الحب بأن يوما ما سوف يأتي لتحول هذه الصحراء إلى رياض حين تبذر فيه ثمار الكروم وأشجار الزيتون, وترسم بريشتها من دواة دمها على شاطيء قلبه ما تريد من ورود, كانت تقول: إنها شعرت ليالي كثيرات بيأس شديد, ولكن دفعها الحب كي تكافح من أجله, أعتقدت أنها ستذيب جبال الجليد الضخمة بنار العشق, التي أشعلها الحب في قلبها له, وأن يوما ما سوف تتحول إلى أنهار جارية, سنوات وهي تأمل, وسنوات من الإخفاق, تقول إنها في هذه اللحظة, تعلن انتصاره وهزيمتها, وكأن الجليد الذي أرادت أن تذيبه أصابها بخدر وبرودة, ومع الأيام صار ينتشر من أطرافها إلى أعضائها إلى أحشائها إلى القلب, حتى توقف وتساوت القلوب, فلم يعد لها قلب حي, لعله يأس بعد طول محاولات, وقد أدرك أنه يحرث في أرض بور, وأن الجليد المتراكم عبر سنوات لن يذيبه دفي قلب ضعيف, قالت له أن النار التي أشتعلت في قلبها هي الآن ضباب وأنفاس باردة, خسرت كل شيء, وعادت بلا شيء, خاوية كما هو خاوي, جامدة كما هو متصلب, قالت له إنه لن يراها ثانية بعد أن جفت كل المنابع في حقولها, وتساقطت كل الأوراق الخضراء, وهي تحاول, قالت له إنها صنعت لقلبها قبرا هناك بين السراب, فهي تزوره في الأعياد والمواسم وتقرأ على روحه الفاتحة ....كان يستمع إليها في صمت رهيب, وعينيه صلبتين وملامحه ساكنة, قال لها: إن قلبه أنتزعته الشدائد من بين صدره المتآكل, الذي ثقبته الكلمات الجارحة, وجعلته في مرمى الضربات, قال لها: إنه كان له قلب كبير, وعشق قدير, وأمل لا حدود له في الحياة, وأنه عشقها ومد ذراعيه لها ليحتضنها وأرسل عبر الهواء ألاف القبلات, وحين كان يهرول نحوها مسرعا, كي تحتضنه أخترقت قلبه طعنة اليتم, وقف من جديد وضمد جراح طعنته وأبتسم للحياة, وتعلم أن يمشي بعكازه, وبعد سنوات قليلة كان يهرول بها, فانطلق ليعانقها, ولكنه أبت وتلقى طعنى الغربة, طعنة الفقر, والعوز طعنة الوحدة القاتلة, والخيانة من الأيدي التي كانت تمسح عن جبينه الأرق, إنها وابل من سهام الحقيقة, صدره أصبح كغربال من كثرت الطعنات, فتش في صدره عن قلبه لم يجده, قطعة لحم, بقايا تضخ لكنه لم يعد هناك, كان يسحف نحو الحياة, رغم الإصابات, التي لم تترك له موضع ينفذ منه الحب, كيف يصير بين الدماء, وقد لطخت كل شيء, كان كمن خرج من حرب أسير تلقته أرجل الجنود بضربات قاسية, وكلما كبرت قليلا أعانق النسيان وأحاول من جديد, وكلما سرت خطوات تجددت الضربات, حتى علمت أنه لا أمل, وحين ألتقيتك تأملت أن تعيدي قلبي الميت إلى الحياة, لكن ذلك لم يكن, كان الوقت قد تاخر وأمتد الزمن بي, وتعمق اليأس, وشعرت بأن خرابا عظيما يسكن قلبي, وأن ما قلت أن صحراء تسكن بين ضلوعي, وأيقنت أنه لا أمل, الآن نفترق في معركة, كلانا خاسر, وكلانا محطم ميت, كلانا قاتل مقتول, غارق في بحر لجي, من ورائه ظلمات, ومن أمامه وعن يمينه وعن شماله, ولا أمل في دنيانا من العثور على نهر نغتسل فيه بماء الحياة, كي يعيدنا أحياء, وينفخ في قلوبنا من روحها, فلينتهي إذن عبثنا, ونغرس عند قبور قلوبنا صبارة, ونعاود الزيارة, حاملين الدعاء على أطراف ألسنتنا المقطوعة, بأن يكون لقائنا في عالم آخر بقلوب حية..... فوداعا.