ضد من..؟
ومتى القلب في الخفقان اطمأن!؟
إن رهافة الحس, ودقة المشاعر, والعواطف الجياشة, والشعور الدقيق الرقيق, والحزن والألم, كل هذا صنع شاعرا فحلا, شاعرا يصنع قصائده بحد السكين, ينحت من صخور الكلمات, قصائد تجابه الموت والفناء, تقف شامخة في وجه الرصاص والمدافع وعوامل الزمن, كان أمل دنقل, يستجمع قواه النفسية والجسدية, عند كتابة القصيدة, كانت خلاياه العصبية, تشتعل من أجل ولادة القصيدة, كان يستحضر الماضي والحاضر, ويعلن الثورات على مر التاريخ, ليقول أن الحرية لا مساومة فيها, كانت قصائده كائنات حية تتفاعل مع الوجود, تذرف الدمع, تبكي تصرخ, كانت قصائده تعكس واقعه, يكتب قصائدة بإعتصار روحه, بدمه, بالنحت في في تلال الأحزان, وجبال الغضب, وبراكين الألم, ويحفر بقلمه مجد كلماته وروعتها, وما بين اليتم والسرطان, كانت مسيرة حياته البائسة, أحزانه المتواصلة, فهل كانت الأحزان هي التي خطت بيدها, وأعدت شاعرنا العظيم وأثقلته, مات أبوه في العاشرة, والأب في هذه السن يكون للابن كل شيء, ذلك الأمان والأمن, والجدار الذي يحميه من شرور العالم, العالم الموحش الذي لا يرحم, بعد موت أبيه, تبدو أنياب الزمن لتفترس وتنهش هؤلاء الضعفاء, ممن فقدوا السند, حتى أقرب الأقربين من الأعمام, الذين يجردون أبناء الأخ الميت من حقوقهم, ويبغون في أستلاب ميراث الأخ, أنه اصطدم بهذا العالم, كان في مواجهة الحياة, التي لا ترحم صغير لصغره, إنها المسئولية لطفل في العاشرة, اضطرته الظروف لينسى طفولته, ليكون رجلا في أداء رسالة, تجاه العائلة الصغيرة, إن الآلام تصنع الرجال, والظلم يصنع الثورة في قلبه, التمرد عليه وعلى الواقع, الذي يلتهم الضعفاء, ويدوس على أحلامهم من أجل أن يفسح للأقوياء والطغاة, إنه الظلم المتفشي في عالمنا الصغير, وعالمنا الكبير, في بيئتنا وفي أمتنا, ليفجر طاقات إنسانية في قلب الشاعر, يلعن الواقع الذي ينتصر لهؤلاء في مجابهة المسالمين, كان أمل يحمل قلبه ألم كبير, وقد جافته الحياة, وأوسعته دروسا قاسية, كانت نفسه ميدان واسع لحروب متصلة, الذي عكر صفو الحياة, والشقاء من أجل الحصول على الكفاف من لقمة العيش, ثم كان السرطان الذي صارعه أربعة أعوام, أنتهت بموته, كانت ثلاثية الموت والفقر والمرض اللعين, التي جابهها بشاعريته, فكانت نفسه نفس شاعر, قلبه قلب شاعر, عقله عقل شاعر, مرهف النفس والقلب والعقل, في ديوانه الأخيره الذي شهد أخر معاركه, أوراق الغرفة 8, كان الموت يحوم حول غرفته, ينتظر اللحظة المناسبة, لينقض على الشاعر العظيم, كان يراه ماثل أمامه في كل لحظة, كان يستنزفه ببطيء شديد, قد نقل شعوره على دفاتره, قصائد حزينة, أخبرنا فيها مدى شعوره به, الموت في لوحات ..زهور ...ضد من؟ كانت حياة قصيرة في عدد سنواتها, ولكنه شاهد عظائم الأمور, وسنوات من الشقاء كأنها قرون كاملة, وها هو الموت يأتي ينقض, لينهي مسيرة شاعر, عاش ليموت, ومات ليعيش بيننا بكلماته وروحه, التي تحوم حولنا تخفز وتنكر وتثور ضد كل ما هو غير إنساني, ترفض أن تستسلم, أن تنحي حتى ولو كان الموت هو نهاية الطريق, فالموت هنا حياة تستحق أن تقبل عليها, فالإنحناء مر, ليس للرجال للذي يعرفون قيمة للحياة, غير قيمة الجشع والطمع, قال أمل كلمته, قبل أن يموت, ولكنه مات وعاشت كلمته, تعلمنا أن الحياة إن خلت من قيمة, من معنى, من عزة, فليس من الضروري, أن يتمسك بها الإنسان, هي سراب إذن, خداع وسيلة قذرة لإشباع غرائز وأهواء..