دائما ما كنت أراها في الصباح الباكر, عند ذهابي للعمل, تمد يديها للعابرين, تلتمس منهم أن يعطوها قروش, لتسد رمقها من الجوع, هي وطفلها الصغير, الذي يجلس بجوارها, لم تبرح مكانها إلى أي مكان أخر, في الشتاء, في عز البرد, وفي الصيف أيام الحرور, كانت تخشى إن هي فارقت مكانها, أن يحدث لها مكروه, أو يقل ما تجمع سحابة النهار من قروش قليلة, ظلت سنوات, حتى تغير الزمن من حولها, لكنها لم تستجيب, يأتي ابنها بها, كل صباح, يضعها حيث كانت تجلس دائما, ويأتي في المساء, ليأخذها إلى البيت, يأخذ ما جمعته, ويتصدق به, وكلما حاول منعها من الخروج, أو أن تمد يديها, بكت, وهوت عليه بلسانها, تدعو عليه, فيخاف أن يجبرها, ويصطحبها إلى نفس المكان, أكلت الناس وجهه, كيف يترك أمه تمد يديها, وهويعمل, ولا يحتاج, وإن الواجب عليه, أن يريحها من عناء العمل, وأن يتكفل برعايتها, وكلما حزن من كلمات الناس, منعها أيام, ثم هي تبكي كالأطفال, حين تمنعهم من الحلوى, تصرخ في وجهه, فيصطحبها, وهو ذاهب إلى عمله, ولا يدري سببا, فهو يوفر لها كل ما تريد, ولا تحتاج لشيء, كلما تقدم لفتاة, أنكرت حياته وأمه, وخشيت أن يبعها, فقد أبى أن يريح أمه, التي مدت يدها للأخرين, كي تربيه وتعلمه, ولا يدري ماذا يفعل؟ يهجرها! ويرحل بعيدا, حتى تتاح له فرصة الإستقرار, التي يرمي إليها, ويسعى وإن ما تفعله أمه, يعطله ويسد طريقه, إنها لا تدري ما تفعل به, إن ذاكرتها تقف عند هذا المكان, تتوقف في تلك المساحة, إن يديها لا تقف عن الاستنجاد, ولا تنقبض أبدا, مفتوحة لتلقي المال من الأخرين, إنه طريق مهين له ولأمه, وهي لا تريد أن تكف, وقد حيره الأمر, وأرتبك له, وسد عليه منافذ الحياة الطبيعية, كان ألمه شديد, ولكنها في نهاية الأمر أمه, ولا يستطيع تركها, والتخلي عنها, عمرها التي قضته في هذه الجلسة أعوام كثيرة, مضت لا تدري هي ما عددها, فكل ما تعرفه من الحياة, لا يتعدى البيت في المساء, وهذا المكان في النهار, والسوق لشراء متطلبات العيش, نظرها ضعف ويديها ترتعشان, وقدميها لا تحملها إلا بصعوبة, إنها الأن ترغب في مصاحبة الأيام الماضية, دون شيء, يديها مفتوحة, وهي جالسة على كرتونة, تصطحبها في ذهابها وإيابها, كنت عائد كعادتي من العمل, ذهابا إليها لأصطحبها إلى البيت, الناس تحيط بها, البعض يحوقل, والبعض يهلل, وأصوات مختلطة, إنها ماتت على فرشتها, جالسة في موضعها, كأنها كانت ترغب في أن تموت هذه الميتة, كانت تخاف أن تموت بعيد, في فراشها في بيتها, أكانت تريد أن تموت بين الناس, أن يراها الجميع, في لحظاتها الأخيرة؟ أكانت تخشى أن أسهو عنها, إذا هي تركتها, في البيت وحدها, فتموت دون أن أدري, لعل ذلك مر بخاطرها يوما, وكأنها ماتت مطمئنة, راضية البال, كانت إبتسامتها واضحة, حين نظرت إليها, بين أيدي الناس أحتضنتها, قبلت يدها, وحملتها جلست بجوارها أصلي وأبكي, وفي الصباح الأخير كانت الصلاة عليها من مكان جلستها, كان ودعها الأخير, وهي محمولة فوق نعشها, تشير بروحها بالوداع ......