الجسد ذلك القفص الذي يحجب الروح, يقيدها عن الانطلاق بسلاسل الشهوات, صراع من أجل الفكاك, التخلص من ربقة اللحم, من فروضه ومتطلباته, إنها الحرب الدفينة في جوف الإنسان, جيوش الجسد, ونفحات الروح, وساحات قتال ضروس بين ميت وحي, فناء وبقاء, لكن سطوة الجسد عظيمة, مملكته واسعة, وأسلحته نفاذة قوية, تجعل الروح مختبئة بين الوديان, تبحث عن الخلاص, الضعف الذي يعتريها والخزلان أمام ضربات النهم الجسدي, ليس الأمر سهلا, فالطريق وعر, والدروب مليئة بالمزالق, والتربص قائم خلف ستار حديدي مصفح, والأمل خافت, والنور غير كافي, ليكشف لنا عثرات الطريق, وأنا أنتظر أميل هنا وهناك, أتأرجح بين الحقيقة والسراب, أتحرر حينا وتقيدني نوازع الجسد أحيانا, أرتقي إلى السماء في المساء الأخير, وفي النور يجتاحني ظلام, ويحجب القلب, وتدور رحى الحياة تسحبني من غنقي المكدود كالبهائم من أجل الكلأ, وأترك نفسي باحثة عن شبع الجوع المتأصل, لا بد من غذاء لتتم دورة الدماء, توقظ العقل من ثبات الضعف والعوز, حينها تتوه الروح تتسرب وتختفي وراء أفق بعيد, تنسى وعند الاكتفاء تعود تتطالبني بالنجاة بالخلاص, أضع يدي في يديها وتأخذ عهدي بعدم النسيان, بأن أجعل لها أولوية البقاء وما عداها يكون له النصيب الضئيل, نصيب الكفاف تعلو بي ثم أنسى, فجوع الجسد مؤلم أنسى في ظلاله العهد والوعود, التي قطعتها على نفسي, تؤنبني فلا أصغي لها إلا عند الاكتفاء, ويظل الشد والجذب نحوها بلا انقطاع, بلا تحديد هوية, أتذكر وأنسى ولا قرار ألا يجوز أن تكون الروح هي السبب في التراجع, وأن ضعفها الذي يربكني بين الأقبال والنفور والتذكر والنسيان, فالغلبة دائما للجسد في ساحة نفسي, وقتلى جنود الروح كثيرين فراية الجسد خفاقة, لا تعرف الرضوخ والهزيمة, وانتصارات الروح الضئيلة, لا تكترث بها فهي دائما تعرف إنها نزوات زائلة, سرعان ما ينطفأ بريقها, لا بد من حل يجعل البريق شعاع, والشعاع شمس تنير لا تعرف الغروب, تشرق أبدا فلا نور مقيم إلا نور الحضرة, فإنه لا يغيب لا ينطفأ فهو أصل كل نور, ولكن كيف الوصول؟ أن تسلك الطريق المؤدي إليه؟ إنها رحلة لا بد من خوض غمارها, أحمل مخلاتي فوق كتفي, قليل من الزاد والماء, ما يحفظ الحياة, وأجوب البلاد, أقرع الأبواب كل الأبواب, فالجهاد نحوه طويل يحتاج إلى العزيمة, الإرادة التي لا تخزلني, الصبر الطويل, أن أحترق ومن رمادي أبعث من جديد, أتخلص من كل عفن قديم ألتصق بي, كي أنبت نباتا حسنا, يرشدني يأخذ بيدي, ولكن كيف يتأتي لي ذلك الخطوة الأولي موضع القدم السير فوق أشواك ورمال الصحراء المحرقة, وفوق الجليد, تثقل الروح, وتخفف من عبأ الجسد, لتنشط وتصبح حرة طليق قيد بعد قيد تتخلص منه, حتى تصبح حرا فلا تتعجل وأسلك طريق المرارة, والألم فلا طريق غيره, ولا معنى سواه لتبدأ وأترك لروحك أن تقود الحروب, لتنتصر هي لتمسك بيدك وتصل بك فدونها كل شيء لا شيء, فأحيا بها ولا تحيا بسواه.






































