أقول : والله شهيد على هذا الذي أقول : لم أر صوفيا لاحيدة في منطقه ومسلكه عن الكتاب والسنة كوالدي وسيدي ، العارف بالله فضيلة الشيخ عبد السلام أبو الفضل ، رضي الله عنه وأرضاه .
لم يكن والدي يحضر الموالد ، ولم يجمعنا يوما لحضورها ، وكان ينكر مايحدث فيها من بدع ومنكرات ، ولم يأمرني يوما بالذهاب إلى الأضرحة ، ولا أذكر أنني ذهبت معه قط إلى أي ضريح ، ولم يأمرني كذلك بالانتساب إلى أية طريقة من طرق التصوف ، وماتحدث معي في هذا الشأن قط ، ولم يأخذ علي عهدا ، ولاأخذ عليه أحد عهدا .
وحين أراد أن يعلمني الأدعية الواردة في السنة حفظني بنفسه وعن ظهر قلب كتاب "الكلم الطيب " للشيخ ابن تيمية ، لصحته أولا ، ثم لاشتماله على الأدعية النبوية الصحيحة التي يحتاجها المسلم في كل مايعرض له في سائر يومه ، صباحا ومساء، وسفرا وحضرا ، وفرحا وحزنا ، ورجاء وخوفا ، وكلها من صحيح السنة المشرفة ، وهو ماكان يحرص عليه والدي رحمه الله أشد الحرص .
وحينما وقع تحت يدي كتاب فيه أوراد لبعض الأولياء المعروفين ، وطلبت منه رحمه الله أن ينتقي لي وردا أواظب عليه ، قال لي بالحرف الواحد : ليكن وردك هو القرآن الكريم ، فهو أفضل مايتعبد به لأنه كلام الله ، ثم أكثري من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففيها كل البركة والخير والفتح وكفاية الهم والغم ، وعظم الأجر ونيل الشفاعة العظمى .
ولطالما حارب والدي البدع والمنكرات والجهلة والجهال ، ومما حفظنيه صغيرة من آداب زيارة الأولياء أبيات لشيخه الولي الصالح ، الشيخ محمد خليل الخطيب رحمه الله ورضي عنه ، يقول فيها :
إياك تقبيل الضريح ولمسه
أو لصق ظهرك فيه أو أحشاكا
أو أن تطوف به كطائف كعبة
حاشاه يرضاه وعنه نهاكا
وكان والدي كذلك يكثر من التنبيه إلى ضرورة الاستقامة على الكتاب والسنه ،
ومما حفظته منه " الاستقامة خير من ألف كرامة "
" وإذا رأيت الرجل يطير في الهواء ولم تجده عند الأمر ، فاعلم أنه كذاب " وكان يقول " علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة "
وكان تصوف والدي رحمه الله ورضي عنه خاليا من الطلاسم ، ومالا يعقل ، والتواكل ، والزهادة المزعومة ، إذ كان جل همه تصفية نفسه من كل أدران العبودية لغير الله ، فكان أن فاض قلبه بتوحيد ربه ، توحيدا ملك عليه شغافه ، حتى تحرر تماما من كل عبودية لغير الله ، فما تملق أحدا ولانافقه ، ولاوقف على باب عزيز ، أو ذي سلطان ، ومارأيته يطلب من أحد شيئا لنفسه ، فالخلق جميعا في وعيه فقراء إلى الله ، ولايملكون لأنفسهم ضرا ولانفعا ، فكيف لغيرهم !!! .
وهذا كلام يعرفه ويشهد عليه كل من عاشر الشيخ أو رأى حاله ، أو سمع عنه .
وكان رحمه الله ورضي عنه عالي الهمة ، لايفتر عن العبادة والذكر ، وتعهد تلاميذه ومريديه بالتربية والتزكية ، وهو في كل ذلك قدوتهم وإمامهم ، فرأوا فيه زهدا
حقيقيا وورعا قل نظيره ، يجود حتى بفطره وهو صائم ، لم يدخر لدنيا ، ومازاد عن حاجته وحاجة بيته، أنفقه متمنيا أن يرزقه الله بالمزيد لينفق وينفق .
سعادته الكبرى كانت في قضاء حوائج المحتاجين، والسعي على الأرامل والمساكين ، وإصلاح ذات البين بين المتنازعين
وأقسم بالله على أن ماكان يقوم به والدي من عبادة وتنسك وتدريس وقضاء مصالح الخلق في اليوم الواحد ، وهو رجل مسن شديد النحافة من مواصلة الصوم وقلة النوم ، لتعجز عنه جماعة من الفتية أولي العزم ،
ولكنها البركة والعون والمدد لرجل أخلص لله فأتته الدنيا وهي راغمة ، ورزق من بركة الوقت والعمر ماتعجز عن وصفه العبارة .
ودعوكم من كل مايحدث من تصرفات يمجها العقل السديد تحت شعار التصوف ، وماهي من صحيحه في شيء .
أما أجمل عبارة سمعتها من والدي رحمه الله ورضي عنه فكانت " نهاية الفقيه بداية التصوف "
ولذا كان يأمرني بالتفقه في الدين إلى أبعد مدى ، لأن التصوف لايكون إلا بعد فقه عميق ، فالفقه يعصم من الزلل ، الذي ربما يعرض لكبار المتنسكين والمتعبدين فيوردهم المهالك ، وكان يرى أن إشاعة التصوف بين الجهال والعوام لهو من أكبر الآثام .
فالتصوف الحقيفي كما كان يقول لي رحمه الله ورضي عنه ، ليس لكل أحد ، وإنما هو حال مع الله ، لايكون إلا لمن بلغ المدى في الفقه والسلوك بعد مجاهدة نفسه وتعهدها بالتزكية ، وقد يكون اصطفاء لأسباب لانعلمها ، و الاصطفاء والاجتباء لايكونان إلا عن خلق" ومن زاد عليك في التصوف زاد عليك في الخلق ، والله أعلم حيث يجعل رسالته.






































