يقول الله تعالى " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا " 

معلوم أن أقوى سبب يوجب الميراث هو القرابة ، فالأقرب يحجب الأبعد بالنظام المعلوم ، الذي فرضه الله تعالى نصا بآيات المواريث في سورة النساء . 

ويبقى أن سبب إرث الأقرباء المحجوبين لايزول عنهم، فهم أقرباء ولكنهم محجوبون بالأقرب ، فكيف إن حضر أحدهم مجلس قسمة ميراث قد يبلغ الملايين أو المليارات ومنهم المحتاج أو المعدم ؟ هل يتركون هملا هكذا ؟ واذا كان القريب غير الوارث يتيما أو فتاة كسيرة لاعائل لها، فما حظهما من هذه القناطير المقنطرة من المال ؟

هنا يقرر القرآن الكريم حكما إنسانيا بالغ الرقي ، يؤسس به لقاعدة الإحسان في التعامل بين الناس - لاسيما الأقرباء منهم - والذي هو فوق الحق والعدل ، وذلك في قوله تعالى " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين …"الآية 

فينبغي ألا يتعامل الناس -وخصوصا الأقرباء- مع بعضهم بمنطق حقي وحقك ، ولكن وفق منطق المروءات ومكارم الاخلاق العليا ، فليمنح الأقرباء المحتاجون من غير الورثة من تركة قريبهم وكذا اليتامى والمساكين وإن لم يكونوا من ذوي القرابة، شيئا من هذه التركة تطييبا لخاطرهم ، وعونا لهم على مصاعب الحياة ، أو يحقق لهم مابه يستغنون عن السؤال ، مع قول جميل يحفظ لكل منهم كرامته لمكانته منه كقريب " وقولوا لهم قولا معروفا "

فالقريب حين يترك فريسة الفقر وله أقارب اغنياء ، يحمل إلا من رحم ربي بكل أمراض الحقد والكراهية ، وقد يكون هؤلاء الأقارب أعماما أو أبناء عمومة مثلا، وهؤلاء العصبات بدلا من أن يكونوا ظهرا حاميا لأبناء المتوفى من غدرات الزمان وتقلباته يتحولون بهذا الحرمان إلى أعوان للزمان ، وأهل الشر والحقد عليهم . 

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى : فإن كل فرد في العائلة هو إما إضافة لها أو حطا من قدرها ، وحين يترك الفقير القريب نهبة للفقر لا يتعلم ولايتهذب ولايعمل ويغدو ويجيء بملابس رثة وقد أضناه الفقر وكسر نفسه وكبرياءه ، لاشك في أنه سوف يكون وصمة في جبين أغنياء عائلته " فأنفك منك ولو أجدع " كما يقول المثل العربي . 

والآية وان كانت تتحدث عن الفقير القريب الحاضر وقت تقسيم التركة ، فهذا فقط من باب الإرشاد إلى الأولى والأجدر بهذا الاستحقاق ، وليس معناه أن يحرم الفقير القريب الغائب عن المجلس لكونه غائبا .  

 

حقيقة نظام تضامني إنساني في أعلى نمط . 

 

قولوا لي بربكم : كيف يستساغ إذن مانسمعه عن صراع التركات بين الأقارب ، ومحاولة بعض الورثة الاستيلاء على حقوق اقربائهم وربما إخوتهم وبالتزوير والاحتيال والنصب ؟ 

وقبل أن يقول أحد إن هذه الآية التي تتحدثين عنها منسوخة بآية المواريث ، أقول : المحققون من العلماء قالوا لانسخ ، وإنما يبقى حكمها على الندب ، وآية المواريث في أصحاب الحق والفرض ، فلا تعارض بين الآيتين حتى يسوغ القول بالنسخ .

بل إنني مع القول بأنه لانسخ في القرآن الكريم مطلقا ، ولاتوجد آية في المصحف الذي بين أيدينا الآن منسوخة ، وهذه من الثقافة الموروثة التي يجب تصويبها . 

ولأن المقام لايتسع: أحيل إلى الدراسة العلمية العميقة للدكتور : مصطفى زيد " النسخ في القرآن الكريم " ودراسة الشيخ عبد المتعال الجبري " لانسخ في القرآن " وكتاب " دراسات أصولية في القرآن الكريم " د محمد الحفناوي ففيها غناء وكفاية .