من استفتاءات الصفحة
تقول السائلة زوجت نفسي من زميلي بصيغة "وهبتك نفسي "كما طلب منى لأنه لايملك أن يعطيني مهرا ، وقد شهد اثنان من زملائنا على ذلك ، وصرنا زوجين ولكن لاأحد من أهلي يعلم لاسيما و أن والدي منفصل عن أمي ، فهل هذا الزواج صحيح ؟
(هذا طبعا بعد اختصار الرسالة وتعديل الأسلوب لزوم النشر )
الجواب : أقول هذا الزواج باطل للأسباب التالية :
أولا : أن الزواج لاينعقد فقها إلا بما يدل عليه دلالة دلالة صريحة من الألفاظ ،التي حصرها جمهور الفقهاء في لفظي الإنكاح أوالتزويج فقط .
أما لفظ الهبة فلا ينعقد به النكاح ، قالوا لأن انعقاده بهذا اللفظ ودون مهر لهو من خصوصياته صلى الله عليه وسلم ، كما دل على ذلك قوله تعالى " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين " فالآية صريحة في أن التزويج بلفظ الهبة ودون مهر هو من خصوصياته صلى الله عليه وسلم ، كما يفيده قوله تعالى " خالصة لك من دون المؤمنين "
ولم يخالف في هذا سوى بعض فقهاء الحنفيه إذ أجازوا النكاح بلفظ الهبة ، ولكن نص الآية يرد خلافهم هذا بلا ريب.
ثانيا : غياب الولي عن العقد ، فانفصال والدك عن والدتك لايسقط حقه في التزويج ، فإما أن يتولى العقد بنفسه أو يتولاه من ينوب عنه ، حسب ترتيب العصبات المعروف ، وذلك للأحاديث الصحيحة التي منعت تزويج البنت نفسها دون ولي ، كقوله صلى الله عليه وسلم " لانكاح الا بولي وشاهدي عدل " وقوله " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل " ونحوهما .
نعم أجاز فقهاء الحنفية أن تزوج البنت نفسها ،على اعتبار أن النفي في الحديث يتجه إلى نفي الكمال لانفي الصحة ، وقد اعتبروا هذه الولاية مندوبة وسموها ولاية ندب واستحباب ، ولهم تفصيلات وسجالات طويلة بينهم وبين الجمهور ليس هذا محل التعرض لها ، وقد تحدثت عنها تفصيلا في كنابي " العرض القرآني لقضايا النكاح والفرقة " وكتابي " حقوق الإنسان : والكتابان منشوران ورقيا واكترونيا .
ثم إن الحنفية لم يسقطوا حق الأولياء تماما في عقد تزويج البنت ، ولكنهم اشترطوا شرطين أظنهما لم يتحققا في حالتك ، هما : أن تزوج الفتاة نفسها من كفء وعلى مهر مثلها ، إذا اعتبروا أن الكفاءة ومهر المثل ليسا من حق الفتاة وحدها، ولايجوز أن يتركا لرغبتها وتقديرها ، ولكنهما حق أوليائها أو عائلتها ، لأن فقد هذين أو أحدهما مما تعير به العائلة ، وحينئذ فإن المفتى به في المذهب هو عدم صحة هذا النكاح ، وفي رواية أخرى : يكون للولي الحق في طلب التفريق ، دفعا لضرر العار الذي لحقه ، مالم تنجب هذه البنت من زوجها .
ثالثا: افتقاد هذا النكاح شرط الإشهار الذي هو شرط عند جميع الفقهاء ؟ ورأيي أن معناه اشتهار الزواج ومعرفة الناس به ، أوعلى الأقل : معرفة المقربين من العائلة والأصدقاء ، ولايكتفى فقط بالشاهدين كما قرر بعض الفقهاء ، صونا لحقوق البنات ، ولحق المجتمع كذلك في صيانة الأعراض والأنساب والحرمات . .
جدير بالذكر أن فقهاء المالكية وإن كانوا لم يشترطوا الإشهار عند العقد ، إلا إنهم اشترطوه عند الدخول ، بل واعتبروا مجرد التواصي بسرية العقد وكتمانه من نكاح السر ، الذي هو باطل عندهم لشبهه بالزنا ، ولما يؤدي إليه من ضياع الأنساب .
رابعا : أسألك : وأين توثيق هذا العقد ؟ ورأيي أن التوثيق لايقل أهمية عن سائر الشروط التي اشترطها الفقهاء قديما ،لما يؤول إليه فقد
ذلك الشرط من ضياع لكافة حقوقك ؟ فماذا تفعلين إن طلقك هذا الزوج ، وكيف تأخذين حقك منه من نفقة ومتعة وخلافهما ؟.
ثم مامصير ماينشأ عن هذا الزواج من نسل؟ فآلاف القضايا في المحاكم تشهد بالضياع
، والفقهاء قالوا : مجهول النسب في حكم الميت ، فتدبري إذن عاقبة ما تفعلين ؟
وأخيرا أقول لك : انتصاري للمرأة ودفاعي عن حقوقها وحريتها ، ليس معناه تشجيعها على العبث والضياع .
فما فعلتيه هذا ضياع وترد وعدوان ليس على حق أسرتك فقط ، ولكن على حق نفسك عليك بارتكابك هذه الأحموقة في حقها.
وأعلم أن القانون الآن يجيز للبنت أن تزوج نفسها ، ولكن لايخفى أن هذا ليس معناه أن ينحى الأب والأولياء تماما عن تزويج البنات ، فمراعاة الأعراف وحق العائلات لاينبغي تجاوزه إلا في حالات محدودة ، كتعنت الأولياء في تزويج البنات أو اشتراطهم شروطا تعجيزية تحول دون تزويجهن ، أو حين يكون الولي في سفر بعيد مثلا وهو يبارك هذا الزواج ، ولكن لايمكنه الحضور ونحو ذلك .
ولكن لايمكن أن نقر في مجتعات كمجتمعاتنا التي يعد الحرص على الروابط الأسرية فيها ، وصيانتها من التفكك هو الأصل ، لايمكن أن نقر بهدم هذا الأصل لنفتي بصحة انعقاد تزويج البنت نفسها دون ولي هكذا على الإطلاق ، بل تظل هذه الفتيا في موضع الاستثناء من ذلك الأصل ، وبما يشبه حالات الضرورة ، التي بها تنقذ البنات من تعنت وظلم بعض الأولياء ، أو ينقذن من فوات حقهن في النكاح بمن يرغبن حين يوجد الكفء ويتعذر حضور الولي ، ولكن بشرط توفر جميع شروط النكاح التي ذكرها الفقهاء قديما ، ويضاف إليها حديثا : شرط التوثيق .
ودون ذلك لاأجيز مثل هذا النكاح الفوضوي ، حتى وإن توفرت الأركان والشروط ، لأن هناك في منظومتنا التشريعية مايسمى بفقه المآلات ، وقد نبه الإمام الشاطبي وغيره من الفقهاء إليه ، فالشيء قد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ، ولكن له مآل على خلاف ذلك فيفتى بالمنع . . ." قال الشاطبي " وهذا مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة "
وأرى أن كل زواج من هذا القبيل الذي صنعت أيتها السائلة يجب أن يمنع شرعا ، لما يؤول إليه من فساد وضياع للنفس والنسل ، حتى وإن استوفي أركانه وشروطه ، لأن حفظ النسل وحفظ النسل مقصدان من المقاصد العليا للتشريع ، فما بالنا بهذا الذي صنعت ؟ بل إن كل زواج الآن دون توثيق لهو من هذا القبيل ، فكيف يباح إذن ؟
وأختم حديثي بتوجيه سؤال إلى أدعياء الحرية الفوضوية غير المسؤولة في بلادنا ، من منكم يرضى إن كان أبا أن تزوج ابنته نفسها دون علمه أو حضوره ؟ وإذا كنت أما ، هل ترضين ذلك على ابنتك ؟
أظن أن الإجابة معلومة ، اللهم إلا من باب المكابرة في شأن لايحتملها على الإطلاق ، فالتوازن بين الحقوق والواجبات مطلوب على كل حال ، ولاأحد في شريعتنا صاحب حق مطلق دائما ، ولاهو دائما في موقع المتحمل للواجبات دون حقوق له بمقدار مايتحمل من هذه الواجبات ، لاوكس ولاشطط .