…. …………………………

لم يكن الإمام محمد عبده في كل ماقدمه من إصلاحات يقترح حلولا من قبيل الهروب من الواقع انتظارا لثواب الله في الآخرة ، أو حلولا تنظيرية صعبة التحقق كما هو حال المنظرين في أكثر أحوالهم ، ولكنه قدم مايشبه الخطوات الإجرائية المقننة ، ساعده على ذلك بلا شك عمله بالقضاء ،ثم بالإفتاء ، حيث الاقتراب بوعي من مشكلات الناس في حياتهم اليومية ، اقتراب يتبعه التفكير الممنهج في كيفية اجتثاث هذه المشكلات من جذورها بحلول ناجعة . 

وقد رأينا في المنشور السابق كيف قدم الإمام مقترحه الإصلاحي في حل مشكلة فوضى الطلاق ، إنها خطوات مرتبة كل خطوة تؤدي التي تليها ، حتى انتهى إلى أن الطلاق لايصح إلا أمام القاضي وبحضور الشاهدين،ولايقبل إثباته إلا بوثيقة رسمية ، وهي الحلول التي لاتزال تلقى جدلا دينيا في مجتمعاتنا لم يحسم بعد .  

 

والآن مع موقف إصلاحي آخر للأستاذ الإمام إزاء مشكلة لاتزال تعانيها الكثير من الأسر في بلادنا ، ولكننا لم نفكر حتى في مجرد فتح حوار مجتمعي موضوعي بشأنها وإلى اليوم ، وهي مشكلة فوضى التعدد . 

ولننظر كيف واجه الإمام رحمه الله هذه المشكلة بموقف فقهي مستنير و حاسم في الوقت نفسه ، وكيف أنه رحمه الله كان قد استمر وفيا لهذا الموقف طوال حياته . 

ملخص رأي الشيخ : أنه لايجوز للزوج أن يعدد على زوجته إلا في حالة واحدة فقط ، هي عجز الزوجة عن الإنجاب ، منطلقا في هذا من شرط الشارع في وجوب تحقيق العدل المطلق بين الزوجات ، الذي يقطع الإمام بكونه غير ميسور التحقق، ومن ثم فإن التعدد يكون حراما - في رأيه - في حق من يظن لمجرد الظن أنه لن يحقق هذا العدل التام المطلق ، ثم ذهب الشيخ رحمه الله يعلل المسألة تعليلا مقاصديا ، فمع عدم العدل يختل نظام المنزل ، وتسوء معيشة العائلة ، حيث فسر رحمه الله آية إباحة التعدد في ضوء قوله تعالى " فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ماملكت إيمانكم ذلك أدنى أن لاتعولوا " وعليه فيجب الاقتصار على واحدة ، لأنه إذا كان التعدد يحرم مع ظن عدم العدل ، فهذا معناه أننا أمام أمر مستحيل التحقق ، وسيقود حتما إلى الجور أو الظلم ، ومن ثم فإنه لايباح إلا لضرورة ، ثم قصرها على حالة عقم الزوجة كما ذكرنا ، لأنه مع العقم لن يتحقق مقصود النكاح أصلا وهو التناسل ، الذي هو ضرورة لعمران الأرض .

ثم يعرض الإمام رحمه الله لظروف إباحة التعدد في مجتمعات ماقبل الإسلام ، ويرى أنه كان نظاما معروفا في بيئات متعددة ، ومنها البيئة العربية لظروف تتصل بالحروب ونقص عدد الرجال ، وقد كان التعدد في الجاهلية بلاقيد أو عدد ، ثم جاء الإسلام فهذب منه ولم يبح أكثر من أربع ، و بشرط تحقق العدل التام بين الزوجات ، فالموقف ليس ترغيبا في التعدد ، بقدر ماهو من قبيل التبغيض فيه ، قال : ولو عقل الناس شرط العدل في التعدد لما زاد أحد عن واحدة. 

 

ثم يعلن الشيخ رأيه بكل وضوح ، وهو أن التعدد غير جائز إلا في حالة عقم الزوجة لتعذر تحقق شرط العدل ، ولو وجد لكان نادرا لايتخذ قاعدة ، وللمشرع أن يمنع التعدد ، وعلى القاضي أن يتحقق من وجود الضرورة التي تبيحه .

يعني أحال المشكلة إلى القاضي لينظر في ملابساتها، ثم يقرر لكل حالة مايناسبها ، إما الحظر وإما الإباحة . 

تقييد التعدد قضائيا في مقترح الإمام إذن لم يكن مجرد فكرة مجردة ، ولكنه إصلاح بخطى ثورية متمردة على واقع أليم .