جئت إلى هنا مراتٍ عديدة، مررت بتلك اللحظة كثيرًا كلما فارقت أحدًا أو شيئًا. غمرتني مشاعر الفقد بأشكال لامتناهية، تلك المشاعر التي تبتلع أمانك من خلال ثقب أسودي وتحس معها أنك فاقد انتماءاتك كلها لازمان ولامكان يقدر أن يجمعك كلك فيه، تركت منك ماتركت في لحظة اللقاء، وجزء أخرًا مع كلمة وعد وتركيزك كله موجه نحو كيفية استحضار المشاهد التي كانت فيها أشيائك على النحو الذي تحبه قبل أن تقُل لها الوِداع.
لكن لايمكنك إنكار حصول الأمر وايضًا سيقتضي ذلك أن تقيم حدادًا بينك وبينك تخجل أن يطلع عليه غيرك، تخجل من نظرات استعطافهم وشفقتهم المحملة بالعتاب وعباراتٍ من قبيل "لايستحق الأمر كل هذا النحيب" مجرد كتاب فقدته في عربة القاهرة التي لاتعرف سائقها اشتر غيره _لكنه كان هدية من عزيز_ لابأس، مجرد راحل ضمن قائمة الراحلين _ لكن أحببت نسختي التي كنت عليها معه_ قائمة الراحلين التي ستمتلئ عن أخرها طوال فترة حياتك وفي كل مرةٍ تتسع القائمة وتقول هل من مزيد؟
مجرد فِراق لست أول من يفارق، لست أول من يُترك على حين غفلة من أمرهِ، لست الوحيد فلما البكاء!
أتذكُر يوم أضعت دفتر يومياتك حين اجتمع بصحبة بعض الخردة التي اشتراها بائع الروبابيكيا؟ أكاد أسمع صوت قلقك يومها يدوي في الأرجاء، وأسألتك التي لم يجيب عنها غير حبة الصداع العاشرة التي تناولتها يومها من فرط البكاء.
واستودعتها في النهاية أمِلًا أن تضيع مطلقًا دون أن يجدها أحدًا، أو يعثر عليها أمين يقدر كل ماتجرأت على سرده من وجائع وندبات ويدفنها الى جوار أسراره الشخصية.
كل شئ خاص بالمفقود يتوقف تدفقه بعد مانقول الوِداع، إلا ذكراه وتمنى لحظة مناسبة يتوقف فيها الزمن فلا يحدث فِراق
ربما تنتبه اكثر، ربما تكن كلماتك أكثر انتقائية فتحتفظ بغضبك لنفسك، وإن كنت تثق أن ذلك لايجدي، والأشياء التي قُدِّر لها الفوات ستفعل مهما أفرطت في جهودك للتمسك بها.