وأنا أتجول في شارع المتنبي، ذلك الحيّ الذي ما زال يضجّ بالحبر والعطر والوجوه المأخوذة بالشعر، جذبتني صورة معلّقة على جدار أحد الممرات الجانبية. لم تكن لوحة فنية عابرة، بل بدت كنافذة مفتوحة على زمن سحيق. اقتربت أكثر، فتجلّت أمامي خريطة زمنية تختصر تاريخًا مدفونًا تحت أرصفة بغداد، وتحديدًا في قلب المركز الثقافي البغدادي.
كانت اللوحة أشبه بسِفرٍ موثّق، يبدأ من عمق القرن الخامس الهجري، حين تأسس على هذه الأرض “دار سُرُر”، وهو ديوان شرعي بناه القاضي أبي سعد عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن عياض، الذي خدم خلفاء بني العباس حتى وفاة الخليفة المستظهر بالله سنة 512 هـ.
ثم يمضي الزمن لتصبح البناية، في العهد العثماني، مقرًا لـ”الدفترخانة”؛ المؤسسة المكلفة بحفظ سجلات الأراضي وتدقيق الشؤون المالية. وفي عام 1286 هـ (1870 م)، أمر الوالي العثماني مدحت باشا بتحويلها إلى مدرسة رشدية عسكرية، لتكون منارة تعليمية في قلب المدينة.
لم ينتهِ السرد هنا، بل استمرت البناية في تبدّل وظائفها تبعًا لتحولات الدولة. في أواخر العهد العثماني، تحديدًا بين 1332 - 1336 هـ (1914 - 1918 م)، تحولت إلى مقر لجمعية الهلال الأحمر. ثم في 1338 هـ (1920 م)، أصبحت مقرًا لوزارة الداخلية في أول حكومة عراقية وطنية.
وتتوالى الاستخدامات، فبين عامي 1921 - 1992 م، احتضنت البناية العديد من المؤسسات والدوائر الرسمية، من دائرة التسجيل العقاري، إلى قسم الآثار، فكلية الآداب، وحتى مقر اتحاد الحقوقيين، وجمعية المحامين، ووزارة الأوقاف. بل استُخدمت أحيانًا كمكان للأرشفة والخزن. وبعدها، بين عامي 1995 - 2002 م، ضمها قسم الحديث الشريف.
كل هذه التفاصيل، موثقة بعناية على الجدار، بلغة مزدوجة، وصور فوتوغرافية قديمة، تُضفي روحًا بصرية على الذاكرة النصيّة. شعرت وكأن الزمن يمرّ من حولي وأنا واقف أمامها، لا سائحًا ولا قارئًا، بل شاهدًا يُستدعى فجأة إلى حضرة الماضي، ليعرف أن البناية التي يعبرها المئات كل جمعة، تحمل في جدرانها أعمارًا بأكملها.
لم تكن مجرد لوحة تعريفية. كانت قصيدة معلّقة على جدار بغداد، تسرق النظر، ثم القلب، ثم تجعل كل زائر يتساءل: كم من الأمكنة نمرّ بها كل يوم، دون أن نعلم أنها كانت، ذات زمن، قلبًا نابضًا لحضارات وأفكار وأسماء؟