ليس غرابًا عاديًّا.
ذاك الذي أرسله الله ليكون أولَ من علّم الإنسان كيف يواري موتاه.
ليس مجرد طائر أسود اللون، نافذ الصوت... بل رسالة سماوية تمشي على الأرض بجناحين.
تأملته طويلًا، في هيبته، في مشيته، في نظرته الثاقبة...
طائرٌ يملأ حضوره المكان دون أن يستجدي انتباه أحد.
فيه كبرياء لا يزعج، وكرامة لا تستعلي،
كأنه وُلد موقنًا بذاته، لا ينتظر من البشر تصفيقًا، ولا يخشاهم هجْرًا.
من غيره أوتي فطنة الدفن، وسبق البشر إلى فهم النهاية؟
هو لم يتكلّم، لكنه كان المعلم الأول، حين خرس الضمير لدى القاتل، ونطق التراب بإرشاد الغراب.
أرأيت كيف علّم ابن آدم الطهر بعد الدم؟
كيف جعل للميت حرمةً، وللأرض سكينة؟
أي مخلوقٍ هذا الذي تراه يُذكّرك بالكرامة، حتى وهو ينبش التراب!
تعجّبت، ولا زلت، من تسارع الناس إلى وصمه بنذير الشؤم،
ألِصوتِه؟ ألِلونه؟
وكأن البياض طُهرٌ دائم، والسواد خطيئة أزلية!
ما أكثر ما ظلمناه بلونٍ وهبته له الطبيعة، وما أقلّ ما تأملناه في حكمته التي وهبتها له السماء.
الغراب ليس طائرَ فُألٍ كما يزعمون،
هو طائر الذاكرة... ذاكرة القتل الأول، والندم الأول، والمغفرة المتأخرة.
هو الطيف الذي يُذكّرنا في كل مرة أننا خُلقنا من تراب، وسنعود إليه،
وأن علينا في الحياة أن نتعلّم ما هو أبعد من الطيران... أن نتعلّم كيف نكون بشراً.
لقد رأيته يتأمل قبل أن ينعق،
ينوح لا جزعًا، بل رثاءً لنا نحن، على ما نرتكبه في حق أنفسنا، وفي حق الآخرين.
يقف على الأسلاك كحكمٍ لا يُخطيء، وكأنه يرى ما لا نراه،
ويحكم بما لا نُجيد النطق به،
ثم يمضي... في سكينة لا نملكها.
الغراب… هو الطير الذي لم يطلب شيئًا، لكنه علّم كل شيء.
وحده، حين خان الدمُ الدمَ، وحين أُسكت العقل وسُلب الهدى،
وقف يُرينا:
أن حتى الدفن يحتاج إلى تعليم.
وأن حتى الخطايا، لا تُمحى إلا بفعلٍ يُطهّر الأرض.
إنه.... معلم الدفن الأول.