كان البرد قارصًا أكثر من المعتاد، الأمطار تندفعُ بقوة والرياح تهب لتزيح كوم الثلج المتساقط وتبعثره في الأرجاء. الساعة الثالثة صباحًا كان "كمال" يقطع الشارع الطويل على أقدامه، ظل سائرًا على غير هدى، يفكر في "خطيبته"، وما فعلته. كل الأفكار شرعت بغير جدوى، راح يتسكع كفنان عاشق لليالي الإسكندرية، كان مرسمه هو المهرب الوحيد الذي يلجأ له. ترك أبويه الشقة له، بالإضافة للشقة التي تسكن فيها أخته أيضًا له. أشتد المطر أكثر وأكثر، فبدأ يجري، ويقفز متعثرًا كالتائه، حتى وصل إلى أقرب محطة أتوبيس واحتمى داخلها من نقرات المطر. أحس بتواتر لهاثه ينخفض شيئًا فشيئًا عندما وقف لأخذ قسطًا من الراحة، واصل السير ببطء فوق الطريق مؤرجحًا يديه وسط الظلام، قدماه تغوص في السيل الجارف التي خلفته الأمطار. ما إن خطى بعض الخطوات مارًا بالطريق المؤدي لمنزله، حتى اندفعت الأمطار ثانيًا بقوة، حيث كان يقف. غرق الرصيف في ظلام دامس، وسطع برقٍ خاطف، أضاء حوله المباني القديمة، واتضحت تفاصيلها، ولمعت النوافذ المغلقة بتلك المباني، كانت نافذة شقته في الدور الأخير يتخبط زجاجها دون توقف، جراء الرياح العاتية والأمطار القوية. مضى "كمال" وقد أعماه المطر، يتحسس مدخل المنزل، وهو مدخل قديم ومنخفض عن الأرض، بابه مصفح بالحديد. نظر لمعطفه المنتفخ قليلًا عند منطقة الصدر، وفتحه قليلًا. استمر في البحث عن مفتاح الباب. تراجع مرتعدًا لرؤية إنسان ملتصق بركن الباب الخارجي. سطع ضوء البرق ثانيًا، فتبين له أنها فتاة شابة ترتعش بردًا وخوفًا. ومع دوي الرعد ارتجف الأثنان. صاح "كمال: من أنتِ؟ وماذا تريدين؟ ولما تقفين هنا؟ لم يكن يراها لكنه كان يسمع أنفاسها وهي تنحب وتقول: "أنا غريبة، لا تؤذني، أرجوك لقد تعطل بنا القطار بعد أن خرج عن مساره مما تسبب في تأخيرنا لأكثر من ستة ساعات، فلم أجد الشخص الذي كان ينتظرني، وفشلت جميع محاولات الاتصال به"
قطع حديثهم ضوء البرق، فاتسعت عيناها من الخوف، واقتربت منه. قال "كمال" محدثًا نفسه: يا لها من كاذبة! أكيد فتاة ليل تريد إراحة ليلها في أي مكان. صاح" كمال" فيها:
مع ذلك لا يمكنكِ الوقوف هنا، الإضافة إلى أني أعلم إنكِ تكذبين، وأضاف: محطة القطار تبعد عن مكاننا هذا بعض الكيلومترات. انكمشت الفتاة في ركن المدخل تترجاه أن يتركها تبيت في المدخل شارحه له كيف وصلت إلى هنا :
" عندما تعطل القطار، كنا قد بعدنا عن خط السير، فاضطررت كباقي الركاب للوصول لأقرب محطة، وانتظرنا موعد القطار الآتي، وعندما دخلنا القطار، تذكرت أنني نسيت حقيبتي وبها جميع النقود التي معي، فأسرعت للنزول من القطار وتوجهت للقطار المعطل، فلم أجد الحقيبة، ظللتُ أبحث عنها حتى دخل الليل، ولم أجدها، سرت في الطريق لا أعلم أين أنا وأين أذهب، فالطقس سيئ، والأمطار كما ترى لا تتوقف، طلبت من سائق تاكسي أن يوصلني لأقرب لوكاندا أو مبنى جامعي أبيت فيه للصباح، فأتى بي إلى هنا، وقال أن بهذه المنطقة لوكاندا، وعند صولي لم أجد إلا هذ المبنى، حاولت الطرق على الباب، لكن لا أحد هنا"
كانت الفتاة تتكلم وصوتها يتهدج بالبكاء. هز" كمال" كتفيه ومط شفتيه، واستدار بحركة آلية نحو الطريق وقال: سأوقف لكِ عربة تذهب بكِ لمحطة القطار، وأضاف: سأدفع لكِ ثمن التذكرة، لكنه تراجع وراح يحك رأسه بعد أن نظر في ساعته" كيف أحصل لك على سيارة في هذا الوقت؟" قالها "كمال" وهو يحدق في الأرض، وكأن البرق ظبط نفسه على ساعة جيولوجيا في هذه اللحظة، ابرقت الأرض فلاحت قدم الفتاة وهي تشع بنور أبيض، بلع "كمال" ريقه وتسارعت دقات قلبه، أخرج هاتفه وأنار الكشاف، فبدت له تلك الفتاة كحورية من حوريات البحر.