أنتزعتها بابتسامة رقيقة ، من بين صفحات كتابها ، الذى جلست بين الصخور على شاطئ بلطيم الهادئ تتصفحه ، كعادتها منذ عشر سنوات ، منذ أن أعلنت عصيانها على كل شيء بتلك الحياة
أغلقت ما كان بين يديها تقرأه ، وقد هبت نسمة هواء رقيقة ، عبثت بشعرها الذى غطي عينيها مدت أناملها ترفعه ، كي تتابع تلك الطفلة الجميلة ،التى وقفت تلامس الماء بقدميها الصغيرة
وكلما رأت موجة آتية من بعيد ، جرت بعيدا عنها.
لتسمع صوت أتي من أعماقها يقول لها :
- كم تشبهني تلك الطفلة في عشقي وخوفي من البحر فى آن واحد
نفس العادة كنت أفعلها ، ألمس الماء من بعيد فقط ،لا أتعمق به ، تخرج منها تنهيدة قائلة:
- يكفي من تعمقنا بهم وأغرقونا ،عاودت النظر من جديد ، إلى تلك التى كانت تراقبها ، تشير إليها بيديها أن تعالي .
سارت إليها حتى وقفت أمامها خجلة ، تنظر إلي رمال الشاطىء تارة ،وإليها تارة أخري
كان هناك شعور تحاول أن تقاومه ، لكنها رضخت له دون إرادة منها في نهاية الأمر
مدت يديها تضمها إلي صدرها بشعور أم ، وقد هدأت على كتفيها هى الأخرى ، كمن تربطهم رابطة دم ، مر وقت وهما على هذا الوضع ، كلا منهم مطمئن داخل حضن الآخر.
هكذا نحن نهدأ ونسكن حينما نشعر بالأمان ، تتسارع موجة فى الخروج إلى الشاطئ ، تقبل رماله ولم تنسى أن تترك آثارها فوق ملامحهم ، ليعودوا ثانية من غفوتهم القصيرة
تنظر إليها متأملة ملامحها الرقيقة قائلة لها :
- تشبهيني كثيرا يا صغيرتي وأنا فى مثل سنك. أخبريني ما أسمك ؟
-أسمي " نقاء"
ضحكت وهى تقبل كفها الصغير قائلة:
- نفس أسمي ، وملامحي أهي صدفة أم للقدر رأي آخر؟!.
تعلقت عيني الصغيرة بها مستفهمة بنظرتها ، هل تقصدين أن أسمك نفس أسمك؟
أومأت لها برأسها قائلة :
-نعم أسمي أنا الاخرى "نقاء" ، لكن أخبريني لم أنت هنا بمفردك؟
بشقاوة لذيذة جلست بجانبها فوق الصخرة ناظرة بداخل الكتاب الذى تقرأه قائلة :
- أتي هنا بمفردي لأن والدى دائما يدعي أنه مشغول .
ضمتها برفق إليها مزيلة عن عينيها ،وخصلات شعرها التي كانت قد غطتها نتيجة الهواء الذي أخذ يعبث تارة بأوراق الكتاب وتارة أخري بشعرها قائلة لها:
- مؤكد حبيبتى أنه مشغول وألا ما تركك هنا بمفردك.
-هو ليس مشغول ،هو فقط يكره البحر
-لماذا يكره البحر؟!
هزت كتفيها قائلة :
- لا أعرف ، لكننى سمعته يوم يتشاجر مع امي ، قبل أن تترك البيت وترحل قائلا لها:
- لن أنقطع عن الذهاب إلي البحر ما حييت، إنه الشىء الوحيد الذى يعطينى الحياة.
ضحكت وقد ضمتها إلي صدرها أكثر ، حتى شعرت بدفء يخالطه نقاء طفولي قد ظلت تبحث عنه طويلا قائلة :
- لماذا لا تأتين بصحبة والدتك إن كان والدك مشغول حقا؟.
-أمي تركت المنزل منذ فترة طويلة ولم تعد ، حتى كانت تكره إسمي لم تكن تنادينى به مطلقا ، طبعت قبلة فوق جبينها الصغير قائلة :
- لا عليك صغيرتي أنا أحبك وأحب اسمك ، لفت كفها الصغير حولها تضمها ، كمن تحاول أن تعبر لها عن أمتنانها لما اهدتها إياه من شعور بالحب تفتقده.
جذبتها من يديها قائلة :
-والأن هيا بنا لقد غربت الشمس ويجب أن نعود ادراجنا .
مدت إليها كفها الصغير ، كمن يُوقع صفقة أمان مع أحد تخبره دون كلام أنها صارت جزء منها ، احتضنت كفها بين اناملها، صارو معا تاركين بصمات أقدامهم فوق الرمال
أثار عاشت الحياة بكل تجاربها ، وآثار ما زالت تتعثر فى خطواتها وهى تدق أبواب الحياة.
توقفت فجأة ناظرة إليها قائلة :
- غدا أتي هنا بطائرتي الورقية هل ستأتين أريك إياها ؟
ضحكت وهى تتابع سيرها ممسكة بكفها قائلة :
- آتي لكن بشرط ان تتركيني ألهو معك بطائرتك ، أنتهي بهما الطريق وقفت تودعها بابتسامة منها ملوحة إليها بكفها قائلة :
- إلي اللقاء ، لم تترك لها فرصة للرد وجرت حيث منزلها ، وقفت تتابعها ببصرها وصوت يتردد بين جنبات روحها قائلا :
- روحك يا صغيرتي تشبه روح مرت بي يوم ما ،سأنتظرك غدا لا تهملين موعدى
مرت الليلة سريعا ، جاء اليوم الجديد ، حملت كتابها وأسرعت إلي صخرتها تنتظر "نقاء" وطائرتها الورقية كما وعدتها ، أنتصف اليوم ولم تأتي كما وعدتها ، همت بمغادرة الشاطىء ، وبداخلها وخز يؤلمها ، خوف وشوق ولهفة على تلك الصغيرة التى لم تعرف لنقض العهد طريق بعد ، مرت الأيام و"نقاء" لا تخلف عادتها، تأتي إلى شاطئها كل يوم تقرأ ، لكن شيء ما ينقصها ، هو تلك الصغيرة التي أنتزعت جزء منها ومضت
وفي عصر أحد الأيام ، جلست "نقاء" مكانها، لتجد الصغيرة واقفة أمامها تنظر تارة اليها وتارة أخرى تنظر تحت قدميها صامتة ، وما أن رأتها ، حتى ألقت الكتاب الذى كانت تمسك به ، قامت اليها تحتويها بين يديها ، أحتضنتها بشدة وشوق وحب هامسة لها:
-أين أختفيتي ؟ماذا حدث لتقطعي عادتك في الإتيان إلى هنا ؟ بكت الصغيرة بشدة ، أخذتها "نقاء" واجلستها بجانبها تهدأ من روعها وتقبل رأسها قائلة:
-أهدئي صغيرتي واخبريني ماذا حدث؟مسحت دموعها بكفها الصغير قائلة:
- لقد وقع حادث لأبي وهو الان بالمشفى وحالته خطيرة
-ماذا قال الأطباء؟
-يقولون أنه بحاجة إلى نقل دم وفصيلته نادرة ، هبت واقفة تجذب الصغيرة من يديها قائلة:- هل تستطيعين الذهاب بي إلى هناك؟
-نعم
-،إذن هيا بنا
ساروا متجاورتين وكأن كلا منهن سند للأخري ،هناك شيء ما يربط بينهن لكن ماذا؟ لا أحد يعرف ، وصلت نقاء والصغيرة إلي المشفي ، أشارت إلى أحد الأطباء قائلة:
- هذا هو طبيب أبي ، سارت نقاء إليه ، حتى وقفت أمامه قائلة بصوت رقيق:
- سيدي أريد أن أتبرع بالدم لوالد نقاء.
نظر الطبيب إليها وإلي الصغيرة قائلا:
-تقصدين السيد "احمد" ؟
-ليكن أسمه هكذا لا يهم ،كل ما يهم الآن هو أن التبرع له بالدم وإنقاذ حياته
-حسنا تعالي معي
سارت بجوار الطبيب ومعها الصغيرة وبداخلها صوت يقول:
- أسمه "أحمد" وأبنته أسمها "نقاء" أي صدفة تلك؟!
يقطع حديثها صوت الطبيب قائلا:
-اتعلمين أن فصيلة دمه نادرة جدا ؟ اتمنى من "الله" أن تكون نفس فصيلتك ، أبتسمت رغم أن كل شىء بها يملأه ضجيج لا تعرف مصدره ، أخذ الطبيب عينة من دمها وقام بتحليلها لمعرفه نوع فصيلتها وكانت المفاجأة ، أن قال بصوت يضحك:
-فصيلتك مطابقة تمام لفصيلة المريض ، أي صدفة تلك ؟ لقد أرهقنا البحث عن نفس الفصيلة ، والأن تفضلي معي لتتبرعي بالدم ،وقفت وقبل أن تخطو قالت:
-هل يمكنني أن أراه أولا؟
-مؤكد هيا بنا
صارت خلف الطبيب وقلبها يكاد يترك ضلوعها لأحساس تجهله
وقف الطبيب أمام غرفة ، تحمل رقم ،٢٢٢ مشيرا لها أن تلك هى غرفة من تتبرعين له بدمك ، فتحت الباب ببطء وخوف ، دلفت داخل الغرفة مغمضة العين، كمن يخاف من أن يرى ما لا يحب ، فتحت عينيها لتتسمر فوق الوجه المغمض العينين أمامها
فتحت فمها و ملأت الدموع عينيها ،حاولت أن تتحدث ، أن تناديه ، لكن هربت الكلمات من حنجرتها ، أقتربت منه ،جلست أمامه تضحك وتبكي في آن واحد ،مدت أناملها تمسح وجهه ورأسه هامسة له:
-بعد كل هذه السنوات أراك هنا ؟ أراك مسجي في مشفى ، هل تشعر بي ؟ أنا هنا بجانبك ولن أتركك ، يتعجب طبيبك من أن فصيلة دمنا واحدة ، ألم يخبره أحد أننا توأم روحين وقلبين ؟ هيا انهض من أجل أبنتك، آه كم هى جميلة تشبهك، الأن علمت سبب أسمها
دخل الطبيب قائلا:
- سيدتى هل أنت مستعدة الآن لنقل الدم؟!
نظرت اليه و أومأت برأسها دون كلام ، أستغرقت عملية نقل الدم حوالي ساعتين ،بدأ المريض بعدها يستعيد وعيه
تركت "نقاء" المشفي وغادرت الى الشاطىء شاردة بعيد عبر امواجه متذكرة عشر سنوات مضت عندما جاءت اليه تنتظره كى تخبره ان اباها غير موافق على زواجهم تحت زعم ان ابن عمها اولى بها منه.
افترقا وكل واحد منهم يسكن الآخر ، لم تتزوج غيره ، وتزوج هو ولم يستطع أن يكمل
هكذا هي القلوب لا تعترف إلا بسكانها
جاءها صوت نقاء يناديها ،نظرت تجاهها ،رأته يسير إليها ممسك بكف أبنته
وما أن وقف قبالتها حتى أقترب يمسك بأناملها بين فراغات أنامله قائلا:
- سمعت صوتك وانا فاقد الوعى، شعرت بـأنفاسك وعطرك ودفئك ،علمت أننى سأنهض مرة اخرى ، سأخرج من كبوتي ، شعرت بأن قلبي قد ضخ أحدهم به حياة.
علمت انك عودتى ثانية ومعي ، لم تجبه كل ما فعلته أن ألقت بنفسها تضمه إليها،وما كان منه ان ضمها بكلتا يديه ، يبحث فيها عن نصفه المفقود.
أمسك بكفها وبكف الصغيرة ناظرين إلى الموج هامسين له "دائما شيء ما يبقى"