هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • بالمنطق .. بالأمن القومي نتحدث
  • الإنترنت... بين كابوس مفزع وحلم جميل
  • لما بنزعل
  • ثبت خطاك
  • أكثر ما ينهك
  • عَتَمَاتُكَ المبصرة
  • لَا تُسَلِّمْ قَلْبَكَ لِمَا لَمْ يُصَلِّ لِأَجْلِكَ
  • التي تكتب ولا تقول… حتى الآن
  • حين يُساء فهمك...
  • يا سَيدةَ الحكايا الثقيلة...
  •  المدلل
  • طبتم وطاب ناديكم
  • مِلك ايديك
  • ونحلف انا وانت نتقاسم 
  • التربية عبر الأجيال.. ليست تحديًا سلبيًا، بل فرصة لتعزيز التفاهم العاطفي والتواصل بين الأسرة
  • الهوسُ المرضيّ
  • وفي حبّك… أنا القُربان
  • رجل من نوع آخر 
  • مسرحية هاملت: مأساة التردد وصراع الوجود
  • في حضرة الحب… لا يموت الرجال
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة صفا غنيم
  5. عشق الراوي - الجزء الثاني

 

 

                        " الفصل الواحد والثلاثون"

 

                              "أحساس جديد"

 

غادرت "عشق" المستشفى بعد أن أخبرت "خالد"بكل ما عرفته، تركت المكان هاربة من أن يرى من حولها طيف الزائر الجديد، الذي بدأ يطرق قلبها،وكأنها تحاول ألا يشعر بها من حولها، حتى هى نفسها حاولت أن تهرب من نفسها،كى لا تعترف بأن ثمة حب يخترقها،ألقت بحقيبتها على طول ذراعيها، وقفت صامتة أمام مرآتها، لم ترى شئ منها داخلها، بل رأته يحتل كل زوايا المكان، صوته، أبتسامته، عطره، حتى صمته وهو يستمع إليها كان يحتل تفاصيلها،هزت رأسها تحاول أن تُسقطه منها هامسة:

-لا لا هذا هراء، هل من الممكن أن أحب بعد كل تلك السنين؟! يا الله من أين أتي لتقلب حال دنيايا هكذا؟! تستحق مؤكد أن يحبك كل من يراك، لو لم تكن تستحق وبك شئ غير جميع من حولي، ما أحببتك أنت بعد كل هذا العمر، لكن كيف وأين ومتى حدث ذلك؟! دق هاتفها فجأة، أنتفضت فى مكانها واضعة كفها فوق صدرها قائلة:

-أنت الأخر تتفق علي مع جميع مشاعري، أقتربت تفتح حقيبة يدها لترى من المتصل؟! أتسعت عيونها وهي تبتسم هامسة:

-تشعرون بي مؤكد، فتحت الهاتف بفرحة قائلة:

-الأديب الكبير والأب الروحي لي "يوسف مأمون" كيف حالك؟! كم أشتقت إليك، تصمت تستمع إليه على الطرف الآخر من المكالمة قائلا:

-أشتقت إليك أجمل طبيبة قلب ، لم توفي بوعدك حتى الآن كما وعدتيني بزيادة لنا فى بيتنا المتواضع، ضحكت كطفلة صغيرة شعرت فجأة بمرسي لها، وسط بحر متلاطم الأمواج، وكأنه تذكرها فى الوقت الذى تحتاج فيه أن يتذكرها أحد يطمئن إليه كى يلقي عنده ما يؤرقه، تنهدت قائلة:

-إن كان الوقت يناسبك الآن سوف أدعوا نفسي على فنجان قهوة معك أنت وسيدة "قسمت" جاءها صوته مرحبا قائلا:؟

-ونحن فى انتظارك، سوف تحضرين تجدين فنجان قهوة أُعد مخصوص من أجلك، أغلقت الهاتف فتحت خزانة ملابسها تخرج فستان يليق بدعوة "يوسف مأمون" وزوجتة، مدت يديها تسحب فستان من الستان الأسود به ورود صغيرة حمراء، ينحصر تحت ركبتيها، مشطت شعرها القصير فى بساطة، أمسكت حقيبة يد صغيرة حمراء ،قاصدة الطريق والهواء الطلق، أستقلت سيارتها متخذة طريق الكورنيش إلى المعادي،رغم الصراع القائم بداخلها ، إلا أن هناك شعور بالراحة والسرور يتخلل كل خلاياها، كانت تنظر تارة للطريق وهي تبتسم حينما تتذكره، وتارة أخرى تنظر إلى سور الكورنيش الذى وقف عليه الكثير من العشاق الذين يعشقون مثل هذا الوقت، أصطدمت عيناها به، أغمضت عينيها وعادت تفتحهما تتأكد أن ما رأته صدق، وأنه هو الجالس أمام النيل بمفرده، أوقفت سيارتها بالقرب منه ، وجدته هو وقد جلس شارد فى النيل أمامه كمن يشكو له شئ يرهقه، ظلت واقفة تراقبه ، تمنت لو تركت السيارة وذهبت إليه تجلس بجواره، تسأله ماذا بك؟! ولم تجلس هنا بمفردك؟!شعرت بشئ يعتصر قلبها من أجله، أدارت محرك سيارته وهربت مسرعة بسيارتها، كى لا تضعف وتفعل ما تشعر به، وصلت إلى شقة "يوسف مأمون" بالمعادي، كانت تقع داخل  بناية راقية أمام النيل، بنيت على الطراز اليوناني القديم، يحوطها حديقة صغيرة بها شجرة صفصاف عتيقة ، يشعر من يراها أن عمرها مائة عام، دلفت إلى الداخل بهدوءها، صعدت السلم الرخامي النظيف، وقفت بالدور الثاني ، أمام شقة علق بجوار بابها ، يافطة صغيرة بأسم صاحبها، دقت جرس الباب مرتين، لم يمر سوى دقائق وفتحت لها خادمة على ثغرها أبتسامة طيبة مرحبة بها قائلة:

-أنت دكتورة "عشق" أليس كذلك؟! تفضلى أستاذ "يوسف" والسيدة "قسمت" بانتظارك، بادلتها نفس الأبتسامة شاكرة لها ما كان منها، أصطحبتها إلى غرفة أستقبال الضيوف ، شعرت بدفء غريب لم تشعر به من قبل ، الغرفة كل ما بها عتيق ، المكتبة وما تحتويه من كتب، المدفأة التي تتوسط أحد جدرانها، طراز المقاعد والسجاجيد، تنهدت تنهيدة راحة، سمعت صوتها مرحبا من الخارج قائلة:

-آهلا بك حبيبتي في بيتك، نهضت مقتربة منها تصافحها، ضمتها "قسمت" إلى صدرها بحنان بالغ، جعلها تستلم داخله وتضمها إليها هي الأخرى، جلست "قسمت" وبجوارها جلست "عشق" سألتها عن أخبار قلب "يوسف" وكيف يقضي يومه؟! وهل يتبع التعليمات كما طلبت منه؟! وهي الأخرى أخذت تسألها عن أحوالها وأخبار عملها بالمستشفى، حضر "يوسف" قبل أن تجاوبها على تساؤلاتها، رحب بها ترحيب حار مصافح إياها قائلا:

-أسمع أسم المستشفى هل من جديد ؟! دخلت الخادمة بصينية عليها ثلاث فناجين من القهوة وطبق ممتلأ بالحلويات، وضعتها أمامهم فى أدب جم وانصرفت، مالت "قسمت" تمسك بفنجان قهوة تناوله لها، والفنان الثاني أعطته "ليوسف" الذى نظر إلى الشاردة بعيد ، رغم وجودها معهما، تبادل النظرات مع زوجته قائلا:

-من يسرقك منا هكذا؟! أبتسمت وهى ترتشف فنجان قهوتها قائلة:

-أنا هنا لم أذهب إلى أى مكان أخر،فلتت من بين شفتيه ابتسامة قائلا:

-نسيتِ أني كاتب؟ والكاتب أكثر شخص يشعر بمن حوله، نعم أنت معنا بجسدك، لكن عقلك وروحك حتى بصرك ليسوا هنا، أنهم مسافرين إلى ميناء أخر، ماذا بكِ؟! ما الذى تحملينه ولا تريدين البوح به؟! هيا تحدثي وسوف نستمع إليك بكل جوارحنا، وكأن كلماته كانت بمثابة زر أمان فتحه ليخرج من خلفه طوفان كلمات، أخذت تروي لهما كل ما حدث لها وداخل المستشفى، وهما يستمعان إليها باهتمام شديد، أنتهت مما كانت ترويه يعقبه صمت من الجميع ، يمسح "يوسف" وجهه بكفيه قائلا:

-الخوف من شئ واحد وسط كل ما رويته لنا، وهو ما يحدث داخل المستشفى، ولا أحد يعرف عنه شئ، هذا هو الشئ الذي يجعلك ترتبكين وتخافين ، أما كل ما أنت تشعرين به تجاه "عمر"وما يفعله هو معك، شئ يجعلك تفرحين، أنه ميلاد حب ، أنه أحساس طاهر نبيل، ليس به شائبة ولا طمع، لا تخافي ، أفتحي قلبك للحب وللحياة، الحب حينما يطرق بابنا لا يستأذن كى يدخل، بل هو فقط يخبرنا أنه حضر، لأن ليس هناك قوة تستطيع أن توقفه أو تمنعه، من لم يحب لم يعرف ما هى الحياة، أطلقي لقلبك العنان، أفتحي بابه ، لن تندمي، كل ما أريد منك أن تفعليه ، هو أن تتركِ نفسك كما تحب لا داعى لأن تقييديها، من هم مثلك لا شئ يليق بهم سوء الحب..

 

 

 

 

 

                         "الفصل الثاني والثلاثون"

       

                                   "لقاء"

 

 

نفر بأنفسنا هاربين من كل من حولنا، ذاهبين بعيد عن أى عين من الممكن أن ترانا وترى ما بداخلنا، نحتضن أنفسنا بأيدينا ، نستجدي منها الدفء، نتوسل إليها أن تحملنا دون ضجر، أن تعطينا القوة والسند ، كى لا نحتاج لأحد سواها نخفى عورة أحتياجنا، حينما نستسلم لأحساس يغزونا دون استئذان ، ونشعر أن شجاعتنا ترحل عنا، نبحث عن أى شئ نحتمي به دون أن يسألنا ما هو سرنا؟!

 

غادرت "عشق" بيت "يوسف مأمون" وهي أكثر حيرة مما كانت عليه، حيرة بين أحساس أكده لها ، تريد أن تتناساه وتهرب منه، وحيرة بين شعور يجذبها دون رحمة إلي "عمر"، يجبرها أن تُكمل معه ما تشعر به، لم تكن تري الطريق أمامها بوضوح ، فقد كان عقلها شارد تماما ، وقفت بالسيارة فى نفس المكان الذى رأته به ، تركت السيارة وترجلت منها ، ذهبت حيث كان يجلس ، تحسست مكانه بأناملها، كمن يبحث عن بقاياه العالقة به، جلست ناظرة إلى النيل، تتمني لو كانت وجدته، وتحدثت إليه وسمعت منه، تشعر معه بونس جديد عليها، شئ معه مختلف عن كل من تعرفهم ويحيطون بها، شئ لا تعرف له مسمى أستسلمت للنيل أمامها، دقائق وجاءها صوت من خلفها قائلا:

-علمت أنكِ هنا، حينما رأيتك داخل سيارتك دون أن تعرفين أني رأيتك، علمت أنك ستعودين إلى هنا، حتما سيجبرك قلبك أن تأتي حيث كنت أنا، دوما نحن هكذا، نأتي الأماكن التي تحمل من ريح أحبتنا، أغمضت عينيها بشدة تحاول أن تفيق مما هى فيه، أعتقدت أنه مجرد صوت بداخلها ، لرغبتها بأن تراه، لكنها تأكدت أنه حقيقة ، حينما وضع كفيه فوق كتفها، نظرت خلفها وكلها ضعف واستسلام، رأته بابتسامته، حتى عينيه رأتهما بنفس صفائها ولمعة الشوق بهما، أبتسمت له ، أخذها من ذراعيها يوقفها أمامه قائلا:

-أنتظرتك وأنتظرت تلك اللحظة عمر آخر، عمر كان لكِ وحدك دون غيرك، لا أعرف ماذا أفعل الآن ؟! هل أصرخ بأعلى صوت لي شاكر الله أنه أهداني إياك بعد كل ما كان؟! أم أبكي عل البكاء يمسح عني ذنب العمر الذي عذبته معي ونحن ننتظرك؟! أم أخبرك بأنني نذرت عمري كربان لكِ أذبحه كل يوم فوق أعتاب ضريحك؟! تعدى عمري الأربعون، لم أحيا منه سوى ثلاثة أيام هى التى تكحلت عيني برؤيتك، حتى خلايا جسدي بأكملها أشعر أنها للمرة الأولى تهدأ وترسي بجسدي وكأنها مني وأنا منها ، كلي عاد إلي وأتاني بحضورك يا "عشق" لم تفعل أى شئ ، لم تتحدث، لم تبتسم، لم تبكي، وكأن كل ما بها تجمد فجأة، كل ما فعلوه معا فى لحظة واحدة دون أتفاق مسبق، أن ضم كل منهما الأخر بشدة، بعمق سنين الحرمان والأحتياج  واللهفة، شعر بها تتكسر فوق صدره، شعرت به يهدأ كرحالة وجد مرساه، لم يعرفوا كم مضي من الوقت وكلاهما ذائب فى الأخر، أخرجها من حضنه برفق، أمسك وجهها بين كفيه وبعينيه خليط من الضحك والدموع قائلا:

-حمد لله على سلامتك ، تأخرتِ عليا كثيرا، لكن لا يهم ما كان ، كل شئ يهون فى سبيل أن تبقى معي، أنتظري سوف أريك شئ يجاوب لك على تلك الحيرة التى أراها بعينيك، وهذا التساؤل الذى يلح عليك مذ أن قابلتك، وضع يديه بجيب سترته، يخرج صورتها القديمة ، مد يديه بها إليها، تناولتها تنظر بها ، شهقت بشدة واضعة كفها فوق شفتيها، ظلت تنظر إلى الصورة وإليه وهى تلوح بيديها فى الهواء قائلة:

-لا أعرف كيف أصدق؟! تلك صورتي وأنا ما أزال فى الخامسة عشر من عمري، أنت من أخذت صورتي من المصور قديما دون أن أعرف ، وحتى يومنا هذا أتسأل أين ذهبت تلك الصورة؟! كل تلك السنون وأنت تحملني بداخلك دون أن أعرف، كل هذا الحب لي ، من أنت بحق الله؟! هل بشر يحيا معنا؟! أم أنك أحد أبطال الروايات القديمة ،التى تحب وتحيا حينما تموت حبا، الأن بدأت أفهم كيف عرفتني أول مرة رأيتك بها؟! وكيف أحببتني وأنا من كانت تعتقد أنه مجرد أحساس وليد اللحظة، لم أكن أعرف أنه عشق تملكك منذ أنا كنا صبية صغار، كيف تحملت كل هذا وحدك؟! أخبرني أى شئ تملك كي تبقي على حب واحدة لا تعرف حتى عنك شئ؟! أمسك كفها بكفه ماضيا معها قائلا:

- لم يكن يهمني أى شئ سوي أن أجدك وأراك من جديد، كنا بمدرسة واحدة ، كنت أكبر منك بسنتين، حينما رأيتك وأنت تقفين مع صديقاتك وقع حبك فى قلبى دون إرادتي، ظللت طيلة العام أراقبك من بعيد ، دون أن تشعري بي،عرفت عنك كل شئ ، من أنتِ؟! أين تسكنين، ضحك عائد برأسه إلى الخلف مردفا:

-ذات ليلة شتوية كانت الأمطار تغرق مصر بأكملها، الجميع يحتمون بمنازلهم، إلا أنا كنت أقف تحت شرفة منزلك، أنتظر أن أراك، كنت بسيط للدرجة التى يُخيل لي أنك من الممكن أن تتركين دفء غرفتك مثلى وتخرجين، حينما شعرت بالبرد يقتص مني، ألقيت حجر صغير بزجاج شرفتك، يومها كُسر الزجاج ، وخرج أبيك يتوعد من فعل ذلك، ظللت مختبئ تحتها كي لا يراني، توقفت تنظر إليه باستغراب شديد قائلة:

- أنت من فعل ذلك؟! هز رأسه بنعم قائلا وهو يتابع سيره:

-كان يوم ميلادك، كنت سوف أُجن وأرسل لك هدية ، لكن مع من وكيف؟! ظللت أمشط واجهة المحال، أري هدية رقيقة أبعثها إليكِ، وفى نهاية المطاف رأيت عروسة جميلة، تمسك بيديها ظرف جواب، أبتعتها وقتها وظللت أفكر من يوصلها لكِ؟! ذهبت إلى منزلك وجدت البواب يجلس مكانه، أقتربت منه أخبره أنني من محل عرائس وتلك الهدية مرسلة لكِ، أخذها منى يومها ومضي ذاهبا إليك يعطيك إياها، فرحت بشدة أن هديتي سوف تغفوا الليلة عندك، فرحت لأنني شاركتك يوم ميلادك،قاطعته وهي تضغط على كفه قائلة:

-ما تزال تلك العروسة عندي حتى الآن، أحتفظ بها بجوار سريري، فهي أحب أشيائي إلي لا أعرف لم؟! لكن الآن فقط عرفت، قد كانت تحمل لي شيئا من مشاعرك، جعلتني أحبها وأتعلق بها، توقفا أمام بائع بطاطا، أشتري منه قطعتين، ناولها أحداهما وأخذ يأكل الأخري قائلا:

-حتى يوم أن عاكسك طالب من المدرسة التي كانت تجاورنا أشبعته ضربا وتم عمل فصل لي يومين حينما أشتكت مديرة مدرستهم ما فعلته إلى إدارة مدرستنا، أشياء كثيرة سوف تعرفينها مع الوقت، كل يوم سوف أحكي لكِ الثلاثة وعشرون عاما التى ظللت أنتظرك بهما، يوم أن تخرجت من الثانويه العامة، ذهبت إلى بيتك لأراكِ، لكنني علمت من البواب التي صارت بيننا معرفة، من كثرة ترددي عليه ، أنك ِغادرتِ مصر حيث يعمل أبيك بالخارج، يومها فقط أحسست أنني فقدت بصري وروحي، لم يعد هناك شئ باستطاعته أن يخرجني من جُرحي ولا حتى العمر بأكمله الذي مضى ولا أعرف أين أنتِ؟! وضعت كل ما لدي في عملي، كنت كل فترة أمر على بيتك، أنظر إلى شرفتك ، أستحلفها أن تأتيني بكِ، أو تأخذني إليكِ، حتى رأيتك يوم دعوة عشاء"خالد"، لم أكن أصدق عيني، لم تسعني روحي يومها، كنت أشعر أن قلبي سوف يتوقف من شدة فرحته، حتى دقاته كنت أشعر بها تضربني دون رحمة ، وكأنه يريد أن يترك ضلوعي ويذهب إليك من كثرة اشتياقى لكِ، رأيتك كما أنتِ ، لم يتغير بك شئ وكأن السنين لم تمر بنا، توقفت فجأة تنظر بعينيه قائلة:

-صدقا حينما رأيتك كان لدي شعور أنني أعرفك،هناك شئ يخبرني أن بيننا أشياء كثيرة وإن كنت لا أعرفها، حتى أحساسي بك، علمت الأن ما السر وراءه، كنت أحمل لك نفسي أحفظها لك دون غيرك ،كل تلك السنون دون أن أدرى، الأن فقط علمت ما السبب وراء رفضي الأرتباط بأي شخص، لأنني كنت أنتظرك، حبك لي نفسه أعطاني حبي لك ، لم يشأ المطر أن يمرهذا المشهد ، دون أن يشاركهما تلك اللحظة، هطل بشدة كمن يعزف لحن متسارع الألحان،  أخذ يغسل وجهيهما وقلبيهما وهما يضحكان، أخذها من يديها قائلا:

-أجري معي، منذ زمن أنتظر تلك اللحظة، جرت معه تغسل نفسها من كل شئ ومن شوائب الزمن.

 

 

 

 

                          " الفصل الثالث والثلاثون"

 

                                 "أقتناص"

 

 

كانت السعادة تتراقص بشكل واضح فوق ملامح "الرواي" حتى عينيه صار بهما نظرة جديدة مختلفة ، يلاحظها كل من يعرفه، ذهب إلى مكتبه باكرا على غير عادته، ألقي تحية الصباح على جميع العاملين معه ، دلف إلى مكتبه فى نشاط كبير، خلع عنه سترته يضعها جانبا ، فتح زجاج نافذته وقف يستنشق الهواء وهو يغمض عينيه، شعر أنه يحمل عطرها إليه، أبتسم فى هدوء، صوت دقات على باب المكتب إستدار قائلا:

-تعالي "ندى" دخلت بابتسامتها الرقيقة قائلة:

-صباح الخير، جاوبها بابتسامته المعهودة لها قائلا:

-صباح الخير كيف حالك ؟! أقتربت من المكتب قائلة:

-الحمد لله بخير، أراك حضرت اليوم باكرا عن موعدك كل يوم، هل هناك شيئا؟! أشار إليها بالجلوس مردفا:

-لا شئ كل ما فى الأمر أنني لم أنم تقريبا، أتيت من الخارج إلى هنا، لوت عنقها بتعجب سائلة إياه:

-ماذا حدث جعلك لم تبت بالبيت؟! هل  هناك مكروه أصاب "عليا"؟! أختفت ابتسامته فجأة حينما سمع أسمها قائلا:

-اطمئني ليس هناك ما يزعج، شقيقتك بخير ومن الممكن أن تكون غارقة في نومها حتى الأن، أنا فقط كنت أتجول قليلا أشم هواء النيل، كما تعلمين أضعف أمامه ، سرقني الوقت ولم أشعر بنفسي إلا مع شروق الصباح، هزت رأسها بلطف، ناظرة للأرض مرة وإليه مرة أخري، كمن يبحث عن كلمات يقولها،ضيق عينيه وقد شعر بها قائلا:

-ماذا بك ؟! تريدين أن تقولي شئ ومترددة فى قوله، رفعت عينيها إليه قائلة:

-نعم تعلم كم أحبك وما هى مكانتك عندي، أنت لست زوج شقيقتي فقط ، بل أنني أعتبرك بمثابة شقيقي الأكبر، أشعر أن هناك شئ غير مفهوم بينك وبين "عليا"، إن كان هذا بسبب عدم أنجابها ، قاطعها " عمر" بإشارة من يديه قائلا:

- هذا الموضوع لا يشغل تفكيري إطلاقا، وكم أخبرتكم جميعا بهذا، ما بيني وبين "عليا" شئ روتيني، يحدث كثيرا فى البيوت، ليس هناك ما يزعج " ندى" أطمئني، تنهدت مردفة:

-أسأل الله أن يرزقكم حياة مستقرة، نسيت أن أخبرك ما أتيت من أجله، رفع رأسه إليها ينتظر ما تقوله، عضت شفتيها خجلا مردفة:

-نسيت أن أخبرك مسئول مصنع الألبان بالخارج، عاد بظهره للخلف قائلا:

-تقصدين السيد " عبد الحميد شاهين"؟! هزت رأسها بالأيجاب، وضع ذقنه فوق يده قائلا:

-كل هذا وهو بالخارج يا "ندى؟! أدخليه من فضلك ، أسرعت للخارج وماهي إلا دقائق ودخل "عبد الحميد شاهين" قائلا:

- جئت إليك قبل أن أذهب إلى المصنع لأنني أحتاج رأيك فى شئ هام قبل أن أتحذ فيه قرار، مال " عمر" بجسده فوق مكتبه قائلا باهتمام:

-ماذا حدث ولم كل هذه المقدمة؟! أى قرار يحيرك هكذا؟! لكن قبل أن تروي لي أخبرني هل تتناول معي قهوتك الصباحية، أبتسم له قائلا:

-لا بأس لم أتناولها بعد ، رفع سماعة الهاتف الموضوع أمامه فوق مكتبه ، طالب من "ندى" أن تطلب من الساعي، فنجانين من القهوة، وضع السماعة عائد إلى ضيفه مردفا:

- الأن أخبرني ما تريده ، أمسك بعض الأوراق التى كانت يحملها بيده ووضعها أمام "عمر" قائلا:

-أنظر أولا بتلك الأوراق، وبعدها أخبرك بما أريده، أمسك الأوراق التى قدمها له يقلبها ، يقرأ ما بها ، ومع كل ورقة يضيق عينيه أكثر، أنتهي من قراءة الورق، حين دخل الساعى يضع القهوة أمامه وأمام ضيفه، طوى الورق عائد به إلى "عبد الحميد" قائلا:

-خمنت ما تريد قوله ، لكن دعني أسمع منك أكثر وفى النهاية نتخذ القرار سويا، أمسك "عبد الحميد" الورق يضعه أمامه، تناول فنجان قهوته يشربه قائلا:

-كما رأيت تعتبر مستشفى الدكتور" عبد الرحمن الأيوبي" من أهم وأكبر المستشفيات التى تحصل من مصنعنا على لبن الأطفال، لكن هذه الألبان للأسف منتهية الصلاحية ، يتم التعاقد عليها مقابل نصف ثمنها أو أقل بكثير، يتم أستعمالها داخل المستشفى، لكن لا أعرف هل يتم ذلك الأمر بمعرفة دكتور

" عبد الرحمن" أم لا؟! فهو معروف بنزاهته، وقد تعاملت معه من قبل عن قرب، حينما حضر أول مرة للتوقيع على صفقة ألبان، لكنها كانت جيدة وصالحة للإستهلاك، ومن بعد تلك المرة انقلبت الأمور حينما تولي الأمر بدلا منه أبنه

" مهاب"، فلتت من بين شفتي "عمر" ضحكة ساخرة تارك الرجل يتابع حديثه مردفا:

-منذ حضوره للمصنع ومعرفته هو و" إسماعيل الشريف" ، وهناك شئ غير مريح يحدث، صفقات مشبوهة ، وسفر للخارج  بصبحة بعضهما كثيرا، رجع "عمر" بظهره للخلف وهو يدق مكتبه بأصابعه قائلا:

-سفر ماذا الذي يجمع بينهما؟! ضحك الرجل يضرب كفا بكف مردفا:

-سفر الصفقات التى تجمع بين أثنين لغتهم لغة واحدة فقط ، وهى لغة المال، "مهاب" لا يختلف عن إسماعيل فى شئ، صمت " عمر" قليلا ، وكأنه يفكر فى أمر ما ، عائد إلى حديثه مردفا:

-لقد أمسكت بطرف الخيط الأن لمعرفة بعض الأمور التى كنت أحتار فيها ، بدأت أربط الخيوط ببعضها، حسنا دعنا نتفق على شئ، إن حدث وجاء "مهاب" يطلب صفقة ألبان جديدة، كتلك التي يأخذها، وافقه، نظر إليه بتعجب شديد، هو "عمر" رأسه بالإيجاب مردفا:

-نعم وافقه، أريد منك أن تحصل على توقيعه هو على الصفقة تلك المرة ، وقبل أن يحصل على الألبان عليك أن تخبرني وأترك باقي الأمر لي، حاول أن يفهم منه لم هذا؟! إلا أن "عمر" كان أسرع منه قائلا:

-سوف تعرف كل شئ فى وقته لا تقلق، أنا أثق بك و نزاهتك تشهد لك، ما أطلبه منك لن يدينك فى شئ، ولن يحصل "مهاب" على لبن مرة أخرى من مصنعنا، حتى تلك الصفقة التي سوف توقعها معه، لن يحصل عليها، الآن تفضل لترى ما وراءك من عمل، نهض يصافحه تارك المكتب ، قاصد طريقه إلى مصنع الألبان، شرد "عمر" فى أثره قائلا:

-يبدو أن خلفك قصة كبيرة أيها "المهاب"لكنها قصة ذات رائحة عفنة.

 

 

                        "الفصل الرابع والثلاثون"

 

                                "إختطاف"

 

حينما نهتدي إلى أنفسنا ونجد أرواحنا،لا نمتلك حيال ذلك غير أن نحتضنها بقوة، نخفيها عن كل ما يحيط بنا،هاربين بها بعيد عن كل الأعين، نتمنى ألا يراها غيرنا، حتى أعيننا نغار منها عليها، مشاعر نقف أمامها عاجزين عن الوصف، لا نمتلك السيطرة عليها مهما فعلنا وحاولنا، كل ما نستطيع فعله هو أن نأخذها من كل ما يحيط بنا،هاربين بعيد خارج حدود الكون، مقيمين لنا حياة تخصنا فقط لا يشاركنا بها غيرهم.

 

 

أنتهي "عمر" من اجتماعه مع "عبد الحميد شاهين"، ترك مكتبه مسرعا كمن يريد اللحاق بأحد، لم يلقي حتى التحية على "ندى" التى لم ينتبه إليها وهى تقف تريد أن تخبره أن لديه ميعاد الساعة السابعة مساء مع أحد موكليه، ركب سيارته وأنطلق، توقف أمام محل لبيع العصافير الملونة، أخذ ينظر إليها وهى تغرد بألوانها الجميلة، وجد نفسه يضحك، ترجل من السيارة ذاهب إلى داخل المحل، أشتري عصفورين غاية فى الجمال والرقة، وضعهما بالسيارة مكمل طريقه، ليعاود الوقوف مرة أخرى أمام محل لبيع وصنع الشيكولاته، أخرج هاتفه قائلا:

-مرحبا سيد "أدهم" أنا بالخارج، هل أنهيت مما طلبته منك؟! دقيقة وأغلق هاتفه يقترب من السيارة أحد العاملين بالمحل يحمل صندوق فخم مزين بشرائط من الستان الأحمر، يناوله إياه، يأخذ "عمر" الصندوق وينطلق، كانت تحمله موجة رقيقة لا يعرف ماذا يسميها؟! شئ يخطفه من كل العالم، حتى من نفسه، شعور يحتلطبه يجعله يضحك تارة، وتارة يشرد شرود يخبر من يراه أنه يفكر بشئ يسرق قلبه وفكره، وصل بسيارته أمام مستشفى "الأيوبي"، توقف ينظر بساعة يديه، أخذ يدق عجلة القيادة أمامه نصف ساعة مضت وهو مكانه ينظر إلى باب المستشفى، حتى رآها خارجة، أبتسم ملء روحه، قبل أن تفتح باب سيارته، كان يقف أمامها ، ضحكت واضعة كفها فوق شفتيها ناظرة إلى السماء قائلة:

-يا الله منذ متى وأنت هنا؟! لم لم تخبرني أنك بالخارج؟! لم يجيب بأى شئ ، كل ما فعله أن أخذها من يديها مسرعا بها ناحية سيارته وهى تحاول أن تفهم ما يفعله قائلة:

-"عمر" أنتظر إلى أين أنت ذاهب ؟! أشار له بيده أن أصمتِ، فتح لها باب السيارة وهو ينحني لها قائلا:

- لا تسألني عن شئ الآن،أعتبري نفسك مختطفة من قبلي، ولن أقبل بأي فدية، غير أن تكوني معي، ركبت وهى تضرب كفا بكف، جلس بجوارها مقترب منها قائلا:

-ثلاثة وعشرون عاما وأنا أنتظر تلك اللحظة، التى تكونين معى، بجواري، أحس أنفاسك، أشعر بوجودك، أتلمس مكانك بأصابعي، ثلاثة وعشرون عاما تعبت بهم وتحملت فوق طاقتي  فقط من أجل تلك اللحظة، تظنين بعد كل هذا من الممكن أن أتركك؟! لا تسألي عن أى شئ الأن، فقط دعينا ننطلق من هنا، نذهب بعيد عن كل ما نعرفهم ويعرفونا، نترك تلك الحياة وزحامها وصخبها ونفاقها، أحتاج أن أخطفك وأخطف نفسي معك، نفسي التى لم أراها منذ زمن بعيد، غير برجوعك وحضور أنفاسك التى ترزقني القدرة على الإستمرار، شردت فى وجهه قليلا قائلة:

-وأنا كم أنتظرتك وأنتظرت أن تخطفني، كم كنت بحاجة لك ولكل تلك المشاعر التى لها مذاق حلو يشبه حبات التوت، نحب طعمها ولا نستطيع أن نصفه، كنت أعلم أنك موجود بمكان ما على تلك الأرض، لكن أين لا أعرف؟!أنطلق بسيارته وكأنه بأرض غير تلك الأرض، وانطلقا سويا يغنون كأطفال تحتفل بيوم العيد، وقف أمام النيل، بنفس المكان الذي تقابلا به من قبل، لكن تلك المرة لم يتوقف أمام السياج الحديدية، بل أمسك كفها يهبط سلم حديدى يصل إلى النيل قائلا:

-تعالي معي، الأرض لا مكان لنا بها، أمسكت كفه بشدة قائلة:

-إلى أين يا "عمر" ؟! هبط السلم بحذر خوفا عليها وهى تمسك به قائلة:

-سوف أريك المكان الذي يعرفك منذ سنوات،سوف أقدمك إلى عم "سلامة" ذلك العجوز، الذى يعرفك حق المعرفة وكم مسح على قلبي بكلماته، كان دوما يخبرني أنني سوف أجدك، وأنك تنتظريني، كان دائما يخبرني أن الأرواح جنود مجندة، تعرف بعضها البعض ،حتى وسط الزحام، وقف الأثنين متجاورين أمام مركب جميل يشعر من يراه أنه قطعة أثرية من زمن بعيد،زمن كان به كل  شيء جميل نقي، تنهدت حينما رأته، شعر بها "عمر" قائلا:

-أعرف سر تلك التنهيدة، أنا الأخر أحب هذا المكان كثيرا، أشعر أنه يسرقني من كل همومي، هنا أشعر بالدفء، دقائق وخرج عليهم رجل ستيني، أسمر البشرة، له شعر أبيض ، عينيه سمراء عميقة، أبتسم  أبتسامة واسعة  حينما رآهما ، غمز بعينيه "لعمر" قائلا بترحاب واضح:

-كنت أنتظر تلك اللحظة مثلك تماما يا "عمر" أخبرتك أنك سوف تأتيني بها ذات يوم، هل صدقت حكمة ذلك العجوز وخبرة هذا الشعر الأبيض؟! نظرت "عشق" إلى "عمر" الذي قفز فوق سطح المركب يحتضن عم "مسعود" قائلا وهو يشير إلى "عشق":

-أخبرني ما رأيك بها؟! كما وصفتها لك ؟! أم أن حقيقتها أجمل؟! نظر إليها الرجل بود كبير مشيرا إليها أن تعالى قائلا:

-بل كما وصفتها يا "عمر" هى بوصف عينيك لها أجمل من بيضاء الثلج ذاتها، عين المحب ترى من تحبه أجمل من بالكون، لذلك تصفه تماما كما تراه، والأهم من هذا هو مقدار شوقك لها ، ذلك الشوق الذى يجعلك تراها دوما كما تحب، مد الأخير يديه يمسك بها كى تصعد المركب، صافحها عم "مسعود" بحرارة مردفا:

-ذلك الرجل مات عطشا إلى رؤياك، هذا المركب كم شهد حديثه عنك، حتى هذا النيل نفسه يحن إليك من كثرة دموعه التى سكبها هنا من أجلك، تفضلي أجلسي وسوف أصنع لنا ثلاثة أكواب من الشاي الذي يُصنع خصيصا للأحبة، جلست "عشق" والفرحة تتغلغل عبر مسام جلدها، نهض "عمر" قائلا:

-دقائق وسوف أعود، عم "مسعود" سوف أترك معك تلك الأمانة لدقائق لا تغفل عنها، ضحكت "عشق" وهى تسمع الأخير الذى بدأ فى إشعال الحطب أمامه لصنع الشاي قائلا:

-خذ بدل الدقائق يوم، سوف أجلس مع "عشق" نتعارف، من الممكن أن تسقط فى حبي بدلا منك، ضحك "عمر" ماضيا في طريقه، أقتربت تجلس على مقربة منه، تشاهده وهو يصنع الشاي، نظر إليها قائلا:

-من أجمل ما يرزقنا به الله بتلك الحياة،هو قلب عاشق، يحبنا كما نحن، والأجمل والأكثر عشق من ذلك، أن تجدي قلب يحبك كل تلك السنوات ويظل مرهون بحبك وهو لا يعرف حتى مكانك، تمسكي به لا تتركيه مهما حدث ومهما كلفك الأمر،نظرت إليه مستفهمة هز رأسه مردفا :

- الحب الصادق كم من عثرات كثيرة وقوية تقابله، لكن كلما كان صادق،كلما واجه وفاز، بالضبط كالذهب، كلما تعرض للنار نُقي من شوائبه، قطع حديثه صوت "عمر" قائلا:

-لم أتأخر،صدقا خشيت عليك من كلام هذا الرجل، أنا أعرف كم جميل حديثه، سمعت صوت زقزقة عصافير، نظرت إلى ما يحمله "عمر" تشهق فرحة بما رأته بيده، تمسك قفص العصافير قائلة:

-كم هي جميلة يا "عمر" أحبهم كثيرا،عاد بخصلة من شعرها كانت قد سقطت فوق عينيها إلى الخلف، جعلتها ترتعش ناظرة إليه ، أبتسم لها قائلا:

-بحثت عن شئ أهديك إياه ،لم أجد غيرهما، أعلم أنك تحبينهم، جلست تداعب العصافير، أخرج الصندوق الذى حصل عليه من محال الشيكولاتة يقدمه لها مردفا:

-أتمني أن تعجبك، فتحت الصندوق ، مدت يديها تُخرج منه قالب من الشيكولا على هيئة أسمها، أغمضت عينيها ممتنة لما رأته قائلة:

-كم تبهرني تصرفاتك ، تأخذني إلى عالم طفولي هداياك، لن أقول لك شكرا على كل ما تفعله من أجلي، بل أقول لك ، أهديتني سعادة بمقدار ما مضى من عمرى كله، سوف أبقي مدينة لك بها طيلة العمر يا "عمر" ، صوت ناى رقيق لف الكون من حولهما، نظرا ناحية عم "مسعود" الذى أمسك بالناي يعزف ما يحيونه من مشاعر وكأنه علم أن لا شيء يستطيع ترجمة المشاعر أكثرمن نغمات الناي، جلسوا جميعا بين مياه النيل وضوء القمر وصوت الناي، يحيون كل ما فاتهم ، يحيون من جديد ، يكتبون ميلاد صنعوه هم بقلوبهم دون أن يفرضه عليهم غيرهم.

 

 

                 

                           "الفصل الخامس والثلاثون"

 

                                 " مبارزة شريفة"

 

نستخدم أسلحتنا المشروعة ضد عدونا، لا نتوارى ونحاربه من وراء حجاب، بل نحاربه وجها لوجه، نُشهر كل ما نملكه فى وجهه القبيح ،كى يلملم أوراقه الملوثة ماضيا بعيد عن دنيانا،مهما كانت قدرته وقوة ذكائه، الخير دوما يبقي، لكل قوي من هو أقوى منه، يرسله الله له كى يوقف جبروته وينسف شروره، لا تغتر بحماقتك التى تُخيل لك أنك الوحيد الذي يحيا على وجه الأرض وأنك تمتلك زمام كل الأمور، وسط كل هذا إن لم تكن شريف سوف يظهر لك سيف حتى وإن كان من خشب يُسقطك أرضا ، يكسر رقبة غرورك.

 

أبى شهر ديسمبر أن يحضر دون هداياه، كانت نسماته الرقيقة و قطرات الغيث، تدق نوافذ المستشفى، حينما حضر "عمر" ووجه ينبأ بأن هناك شئ مهم حدث، سأل عن "عشق" و"خالد" ،أخبره موظف الأستقبال أنهم جميعا لدى دكتور

 "عبد الرحمن " بغرفة مكتبه، ذهب إليهم، دق الباب برفق، قام "خالد" يفتح الباب قائلا:

-تلك طرقات "عمر" فتح الباب مهلل حينما رأه مردفا:

-كما قلت إنه هو، تعانقا بحرارة واضحة فقد مضى أسبوع لم يرى أحدهما الآخر، ألتفت قلب "عشق" فى لهفة تنظر إليه، لم يري بالغرفة أحد غيرها، ظلت عينيه عالقة بوجهها، حتى دخل وصافح الجميع، صافح كفها ناسيا أن يتركه، تبادل الجميع النظرات فى سعادة غامرة لما يحدث أمامهم، جاءه صوت دكتور "عبد الرحمن" تلك المرة قائلا:

-"عمر" نحن جميعا هنا، وضع الأخير يديه فوق فمه خجلا وهو ينظر إلى الأرض قائلا:

-وأنا معكم، حمد لله على سلامتك، كدنا جميعا أن نموت قلقا عليك، أنرت مكانك بالمستشفى من جديد، جلس الجميع يتحدثون فى ود حتى قاطعهم "عمر" قائلا:

-أريد منكم دقائق تستمعون إلي، هناك أمر هام يخص المستشفى وبالأحرى يخص دكتور "عبد الرحمن" نظر الجميع إليه فى أهتمام واضح ، تعجب الأخير ملقى بجسده فوق مكتبه قائلا:

-ماذا هناك يا "عمر" أنا أسمعك، أخرج من جيبه ظرف مغلق ووضعه أمامه على المكتب قائلا:

-أريد منك أن تري ما بداخل الظرف، أمسك دكتور" عبد الرحمن " الظرف يفضه، وقد ران صمت تام فى المكان، إلا من نظرات الجالسين بعضهم لبعض، أخرج بعض الأوراق التى تشبه العقود يقرأها، رفع عينيه إلى "عمر" قائلا:

-أحاول أن أجمع الخيوط ببعضها، كى أفهم ما تريد توصيله إلي، تلك هى توقيعات "مهاب" على صفقة شراء ألبان مرة أخرى للمستشفى، رفع "عمر" سبابته  قائلا:

-كي تصير الجملة أكثر دقة، صفقة ألبان منتهية الصلاحية ككل صفقاته المشبوهة، ضرب "خالد" المنضدة أمامه بيده حتى كاد أن يكسرها قائلا:

-مهما فعلت معه ومهما قلت، الشيطان الذي بداخله لا يغفو،لا يكفيه ما فعله بأبيه الذى كان بين الحياة والموت، ولا إلى أى شئ أوصل سمعة المستشفى، من جديد يعيد الكرة مرة أخرى تحت زعم أن له نصف أسهم المستشفى،أشار إليه أبيه مردفا:

-اهدأ يا "خالد" أنا كدت أن أصل إلى ما يجول بعقل "عمر" أكمل ما تريد أخبارنا به، تقدم الأخير بجسده للأمام وهو يجلس فوق مقعده قائلا:

-أتهمك "خالد" من قبل بأنك الموقع على تلك الصفقات المشبوهة،ممسك بيده ورق العقود كوسيلة تهديد، حينما يلوح له أحد بأنه يجب عليه ترك العمل بالمستشفي، تلك الأوراق الأن تعتبر ضده ومن ثم تلغي جميع الأوراق السابقة لأننا ببساطة سوف نضاهي التوقيع هذا بالتوقيع القديم، بذلك من الممكن أن يستخدم دكتور "عبد الرحمن" هذا الكارت كى يخرج " مهاب" من إدارة المستشفى نهائي، ونفوت عليه عمل أى تصرف يُشين إليكم وإلى هذا المكان، نظر "خالد" إلى أبيه الذى كان شارد قائلا بحماس:

-"عمر" معه حق فى كل ما قاله، جاءت الفرصة التى تجعلنا ننتهي من هذا الخوف الذى نحياه من جراء تصرفاته الحمقاء، لم يُجب أبيه عليه بأى شئ، تعجب الجميع دون كلام ، ضيق "خالد" عينيه مردفا:

-ماذا هناك يا أبي؟! ألم تكن تلك رغبتك أنت الآخر منذ زمن ؟! لم أنت صامت هكذا الأن؟! تنفس دكتور" عبد الرحمن" بعمق قائلا:

-نعم تلك رغبتي ولم تتغير، لكن هناك ما هو أكبر من ذلك ، نفسي تحدثني أن أخيك متورط فيما هو أبشع يا "خالد"، إن فعلت ذلك الأن وأخرجته من إدارة المستشفى لن يكون تحت بصري، لن أستطيع معرفة ما يقوم به، أحمر وجه "خالد" غضبا كاد أن يثور لولا أن نظر إليه "عمر" نظرة أوقفته، فرك كفه بعنف، أبتسم "عمر" بهدوء قائلا:

-وأنا أوافقك الرأي يا عمي، لكن دعنا نضغط عليه بتلك الأوراق على الأقل ليقف عن فعل أى شئ جديد ، حتى نصل إلى القديم، هز دكتور" عبد الرحمن " رأسه بالموافقة، وقف "خالد" يمسك بالأوراق قائلا:

-سوف أذهب إليه الآن أواجهه بهذا وأطلب منه ألا يوقع شئ يخص إدارة المستشفى، وقفت "نهال" تمسك بيد "خالد" قائلة:

-أهدأ لا داعي لمواجهة تحدث بينكما الآن، "مهاب" لا يتحمل منك كلمة، جذب

"عمر" الورق من يده قائلا:

-أبتعد أنت تماما من الصورة وأترك لي الأمر،سوف أتولاه بدلا منك، أنا أقدر على التعامل معه، ترك دكتور "عبد الرحمن" مكتبه متوجه ناحيتهم قائلا:

-أنا مع "عمر" هذا عمله وهو يستطيع القيام به بعيد عن أي مشاعر أو أعتبارات، لكزه "خالد" فى كتفه قائلا:

-أخذتها مني تلك المرة، غمز له بعينيه قائلا وهو ينظر إلى "عشق" لا يهم كل هذا فقد أخذت من لي، سوف أمضي الآن أرى ماذا أفعل؟ ألا يريد أحد منكم أن أصحبه معي في طريقي؟! أقتربت "نهال" من "عشق" قائلة:

-"عشق" كانت سوف تغادر قبل حضورك، من الممكن أن تأخذها معك، أشار لها بكفه كمن يوسع لأحد الطريق قائلا:

-يسعدني أكيد، تفضلي معي، أشارت إليهم بالتحية ماضية معه، ما أن غادر الأثنين المكتب حتى أطبق بكفه فوق كفها، حاولت أن تنتزعه منه، لكنه أبى ممسك به أكثر قائلا:

-لن أتركه أريد الجميع هنا وبكل مكان أن يعرف أنك خاصتي، سيري وأنت مستسلمة، ضحكت وهى تنظر لمن حولها قائلة:

-مجنون وأحب جنانك هذا، تعلم يا "عمر" أنني كنت دوما أبحث عن عاشق مجنون، لا يقف عند حد يقيده، يفعل ما يحسه، يحيا ما يريده، يبعث بي حياة جديدة مختلفة، يحبني بعقل مجنون، وبجنون عاقل، أنت هذا المجنون الذى كنت أنتظره، قبل أن يجيبها وجد "مهاب" يقف أمامهما عند باب المستشفى بضحكته السمجة قائلا:

-ما تلك الصدفة الجميلة؟! من ؟! الأستاذ الكبير" عمر الراوي" بصحبة الدكتورة الجميلة "عشق"؟! لكن ما هذا الذى أراه ؟! يبدو أن هناك قصة حب تلوح في الأفق، ألتصقت "عشق" أكثر " بعمر" الذى شعر بخوفها ، أعطاها مفاتيح سيارته وهو يشير بأصبعه لها إلى مكانها قائلا:

-حبيبتي سيارتي هناك،أذهبي أنت وانتظريني بها، لا أحب أن تقف خطيبتي مع رجل غريب، أمسكت بالمفاتيح ماضية كما طلب منها، ضغط "مهاب" فوق أسنانه بغيظ حينما سمع ما قاله "عمر" الذى أقترب منه يمسك بياقة قميصه قائلا:

-منذ تلك اللحظة عليك أن تعرف شئ لن أكرره عليك مرة أخرى،وهو أن "عشق" خطيبتي وفى القريب العاجل سوف تكون زوجتي، إن رأيتها فى طريق عليك أن تأخذ طريق أخر، وإياك أن تتعرض لها بشئ مهما كان هو، سمعت ما قولته، تركه ماضيا خطوة مردفا:

-نسيت شيئا آخر، أخرج من جيبه الأوراق ، واضعها أمام عينيه مردفا:

-أنتظرك فى الوقت الذى يناسبني أنا ، لتقرأ تلك العقود، أليس هذا توقيعك؟! جحظت عيناي "مهاب" وهو يرى الأوراق التى تخص الصفقة الموقع عليها، حاول أن يمسكها لكن "عمر" طواها ووضعها بجيبه قائلا:

-لم تتعلم بعد، أفهم جيدا قدراتك وقف عندها، كي لا تضع نفسك تحت أسنان خصمك الذي هو أقوى منك، تركه ماضيا وهو يلوح له بيده مردفا:

-لا تنسي سوف أنتظرك حينما أريد أن أخرجك من حيرتك تلك التى سوف أتركك تغرق بها أكثر ، كما فعلت بأبيك من قبل، أستقل سيارته ماضيا في طريقه مع "عشق" ، تارك "مهاب" يحترق بشعوره الذى لولا أنه حاول أن يخفيه لحرق به من حوله قائلا بحقد شديد:

-واحدة بواحدة يا "راوي" وسوف نرى من يضحك فى النهاية.

 

 

 

 

 

                           

                          "الفصل السادس والثلاثون"

 

                                   "تعارف"

 

نحب كل شئ حولنا حتى خصومنا وأعدائنا، نجدنا نصفح عنهم ،لا نتذكر إساءتهم، وكأن الكون من حولنا لم يعد غير حدائق ياسمين وغابات حناء، نتمني أن نخبر الجميع أننا نحب ، نحلم بأن نمسك بيد من عشقناهم ، نقدمهم لمن حولنا، ننطق أسمائهم لهم ، كمن يقول أننا من هؤلاء وأنهم بعض منا، خلقنا من بين ضلوعهم، نسير وأيدينا مطبقة عليهم، لا نريد أن يقترب منهم غيرنا مهما كان هو، حينما نحب لا نرى ولا نسمع ولا نهفو لشئ أكثر منهم.

 

أخذ "عمر" يتحدث إلى "عشق" بعد أن ترك "مهاب" قائلا:

-أريد منك خدمة ، لن يستطع أحد القيام بها غيرك، لكن عليك أن تحترسِ جيدا حبيبتي وأنت تقومين بها، أستدارت تنظر إليه باهتمام قائلة:

-ما هي يا "عمر"تلك الخدمة؟! إن كان باستطاعتي فعلها، حتما سأفعلها ولن أتواني فى ذلك، عرج إلى أحدي الطرق البعيدة عن الزحام قائلا:

-أريد معرفة أسم الطفلة التي توفيت منذ أسبوع بالمستشفى وعنوان أهلها، نظرت "عشق" عبر النافذة قائلة:

-كنت أخمن أنك سوف تطلب ذلك،لأنني شعرت أن الأمر يخص "مهاب"، هل لديك نفس الشكوك الواقعة بقلبي، هز رأسه وهو يتابع قيادته مردفا:

-تلك ليست شكوك، أنه إحساس قوي بداخلي، يحتاج مني أن أتأكد من حقيقته، عادت بعينيها  إلى الطريق أمامها قائلة:

-أترك هذا الأمر لي،غدا أن شاء الله سوف يكون لديك ما طلبت، توقف أمام محل صغير يصنع الآيس كريم قائلا بمزاح:

-ما رأيك بعلبة آيس كريم مثلج في شهر ديسمبر؟! حكت أنفها بكفها قائلة:

-أوافقك على جنونك، ترجل من السيارة قاصد بائع الآيس كريم، أحضر علبتين كبيرتين، عاد إلى السيارة ، ناولها أحدى العلب قائلا:

تفضلي أميرتي الجميلة، تناولتها منه بلهفة قائلة:

-كيف عرفت أنني أحب الفانيليا؟! إستدار حتى أصبح يجلس في مواجهتها تماما قائلا:

-نسيتِ أنك أبنة قلبي، تربيتي به وأمام عيني، كيف إذن لا أعرف ما تحبين وما تكرهين؟! أبتسمت وهي تتناوله دون كلام ، مرت دقائق حتى رفعت يديها قائلة:

-جائتني فكرة كنت أود قولها لك يا عزيز، ضيق عينيه قائلاً:

-عزيز من الذي تقصدينه؟! أقترب يمسك أذنيها مردفا:

-هل تحبين رجل غيري أسمه عزيز؟! هيا أخبريني كي أقتله، أمسكت بكفه تقربها من شفتيها تقبله قبلة طويلة، جعلته ينتفض فى مكانه، شعر أنه يذوب كقطعة ثلج، تبعثر فجأة كل ما به، جميلة هي قبلة الصدفة، قبلة اللهفة، قبلة فوضى المشاعر، التى تأتي على حين غفلة، تأتي كجائزة دون موعد محدد، تأخذنا دون ترتيب أو تمهيد، تخطف كل ما فينا، نظرت إليه وهو الأخر تائه فيها قائلة:

-أنت عزيز، أسميتك عزيز قلبي وعيني وروحي وعقلي، أنت عزيز كل عزيز يا "عمر"، أمسك برأسها يضمه إلى صدره يتمني لو أخفاها بين ضلوعه هامسا بصوت مبحوح من شدة تأثره مما فعلته:

-صدقيني تلك هى المرة الأولى التى أشعر أنني أمتلك العالم بين يدي، تلك هى العاطفة التي افتقدتها عمري أكمله، ما فعلتيه الآن مسح عنى ترسبات وضربات مررت بها وتركت ندباتها فوق جدار قلبي، لن أنسي لك ما فعلتيه، لأنك ببساطة نفختي في الروح من جديد، عادت بشعرها للخلف وهي تتنهد قائلة:

-ما كل هذا الكلام الحلو؟! دعني أخبرك ما أريد قبل أن أنسي، أريد أن أقدمك إلى الأديب"يوسف مأمون" وزوجته، تعرفه طبعا، وضع علبة الايس كريم جانبا قائلا:

-ومن فى مصر والوطن العربي بأكمله لا يعرفه، طبعا أعرفه وأحب كتاباته كثيرا، لدي جميع أعماله، كم تمنيت أن أعرفه كأنسان كما أعرفه ككاتب، صفقت بيديها قائلة:

-هو أيضا يريد أن يعرفك، لقد حدثته عنك قبل أن أعرف حقيقة ما بيننا، وقبل أن تخبرني الحقيقة، هو وزوجته تربط بيننا علاقة طيبة ويحبونني بشدة، ما رأيك إن ذهبنا إليهما الأن؟! أومأ برأسه قائلا:

-وهل لي أن أرفض لك طلب، طبعا موافق، لكن علينا أن نستأذنهم  بالذهاب أولا، أخرجت هاتفها من حقيبة يدها، تحدثت به دقيقة عادت بعدها إليه قائلة:

-تفضل هم بانتظارنا، سوف أصف لك الطريق وعليك أن تسير خلفي، ضحك وهو يدير محرك السيارة، وصلا الأثنين تحت البناية التي يقطن بها "مأمون" كان "عمر" يحمل بين يديه صحبة كبيرة من الورود الحمراء الجميلة  تتوسطها أخري بيضاء اللون، و"عشق" تحمل علبة شيكولاتة  فخمة، صعد البناية حيث شقته، دقت الجرس ، فتح الخادم الباب فى أدب جم رحب بها ترحيب حار، أصطحبها هي و"عمر" حيث غرفة الأستقبال، دقائق وجاء صوت "قسمت" مرحبا كعادته قائلة:

-أنرت حبيبتي أشتقت إليك كثيرا، نهضت "عشق" تضمها، نظرت إلى "عمر" وقبل أن تقدمه إليها بادرتها قائلة:

-هذا هو "عمر" أليس كذلك؟! نهض يصافحها قائلا:

-نعم أنا هو، تصافحا بود واضح ، قبل أن يجلسوا، دخل"يوسف" قائلا:

-كنت أعلم أنكما ستحضران معا وها هو أحساسي يكسب، تعانقا وكأنهما يعرفان بعضهما البعض منذ زمن، الأرواح لا قيود لها ولا سجان عليها، نشعر بمن يشبهون أرواحنا، يدخلون قلوبنا دون أستئذان، جلس "يوسف" بجوار "عمر" قائلا:

-حدثتني عنك كثيرا، رأيت حبك يتراقص بعينيها قبل حتى أن تعترف به هي، الحب له رائحة توشي به دوما، تجعلنا نشتم ريحه وإن كان بيننا وبينه بلاد وسفر، تنهد "عمر" ناظر إلي "عشق" قائلا:

-لم أعرف ما هو الحب إلا بها، لم أحب طيلة عمري أحد غيرها، حتى وهى ليست معي، أنه عهد قطعته على نفسي ألا يسكنني سواها، لكن أخبرني أستاذنا هل تحبني مثلما أحبها؟! ضحكوا جميعا وأحمر وجه "عشق" خجلا وهى ترميه بنظرة عتاب ألتقطها "مأمون" قائلا:

-إن لم تكن تحبك هي أيضا ما أستطعت أنا أن أعرفك ، من يحب بصدق بأمكانه أن يجعل جميع من حوله يعرفون من يحبه بل ويقعون فى حبه هم أيضا، من شدة حبه له، نعم تحبك وبشدة، لذلك أنتبه كثيرا ، أجعلها فى أمان من أى أحساس من الممكن أن ينهشها، من يحب لا يريد أن يشاركه أحد فيمن يحب، مرت عاصفة فجأة بوجه "عمر" لم يراها غير "مأمون" لأنه يعرف سببها، مر الوقت بينهما وهم يتجاذبون أطراف حديث شيق وسط جو من الحب والود، نهضت "عشق" تغادر هي و"عمر" قائلة:

-كم كان بودي أن أظل معكما لكن لدي عمل بالمستشفى، و"عمر" أيضا لديه عمل بمكتبه، تصافحت هو و"قسمت" التى شدت على يدها تأكد عليها أن تعودهم قريبا، سارت معها توصلها للباب ، فى حين وقف "عمر" بمكانه مع "مأمون" قائلا:

-لا تخف على "عشق" فهى لدي بمثابة روحي التى أحيا بها، مسح "مأمون" على كتفه قائلا:

-كى نحافظ على شئ ثمين لدينا، علينا ألا نجرحه، أظن أنها حتى الأن لا تعرف أنك متزوج، تنهد "عمر" بأسي مردفا:

-فهمت من حديثك أنك تعرف، وضع يديه بجيب الروب الشتتوى الذى يرتديه قائلا:

-حينما حدثتني عنك، سألت عليك وعرفت كل شئ، عرفت أنك ماهر بعملك، لديك سمعة طيبة، الجميع يحبونك إلا أعدائك وهذا أمر بديهي، وعلمت أيضا بقصة زواجك وأنك غير سعيد أو مستقر، أستمع إلي ليس عيبا أو حرام الزواج الثاني، لأن الله عز وجل شرع لنا ذلك، لكن عليك أن تمهد هذا لها وتخبرها به بطريقة تجعلها تتقبله، سوف تعرف هذا عاجلا أم أجلا، لا تخف هي تحبك وسوف تتفهم الموقف، لكن أريدك أنت أن تخبرها قبل أن يسبقك إليها أحد، الشر لا يتوانى في هدم أى جميل يا "عمر" وما بينكما شئ من أجمل ما يكون فهمت؟! صافحه قائلا:

-فهمت لا تخف لن أدع أحد يفرق بيننا مهما حدث.

 

 

                       

                          "الفصل السابع والثلاثون"

 

                                "بداية طريق"

 

عندما تبدأ أقدامنا السير بطريق أخترناه بإرادتنا، علينا أن نكمل حتى النهاية، لا نقف بالمنتصف مهما كلفنا الأمر، علينا أن نمتلك الشجاعة التى تجعلنا نقوي على كل معوقات تقف أمامنا، عندما نبدأ السير بطريق سرنا فيه ونحن نعلم أنه ليس ممهد، علينا أن ننظر خلفنا على كل خطوة قطعناها ، سوف ندرك وقتها أننا نستطيع، وأن ليس هناك صعب أو مستحيل، يكفي أن نقف أمام أنفسنا فخورين بما فعلناه.

 

قصدت "عشق" أرشيف المستشفى، بعد أن قام "عمر" بتوصيلها، كانت الموظفة المسئولة تربطها علاقة طيبة بها ، بينهما حب وود كبيرين، وقفت "عشق" خلف زجاج نافذة كبيرة تفصل الأرشيف عن الممر الطويل الذي يؤدى إلى باقي غرف الإدارة، دقت الزجاج بأناملها، تنبهت الموظفة لوجودها، رفعت الأخيرة عينيها عن الأوراق التى تعمل بها، ما أن رأت "عشق" حتى أبتسمت أبتسامة عريضة، واقفة مشيرة إليها بيدها أن أدخلي، دلفت "عشق" إليها تصافحها قائلة:

-كيف حالك؟! منذ فترة لم آراك، أشارت إلى أحدى المقاعد المتناثرة حولها قائلة:

-تفضلي بالجلوس لقد أنرت المكان ، أنا الأخري أشتقت إليك، زحمة العمل لا تترك لي فرصة كي أحضر إلى مكتبك كى أراك، جلست "عشق" تعبث ببعض الأوراق الموضوعة أمامها فوق المكتب قائلة:

-أعانك الله أرى كمية العمل التي أمامك، لو كان بيدي كنت ساعدتك بها، لكنني لا أفهم شئ بعملك، ضحكت وهى تغلق دفتر كبير أمامها قائلة:

-يكفيني شعورك هذا، لقد تعودت على هذا العمل منذ زمن، لكن أخبريني أى ريح طيبة أتت بك إلى هنا، أنت لا تحبين هذا المكان لأنه مزدحم؟! أمسكت "عشق" بقلم وضع على المكتب ترسم دوائر فوق ورقة كانت أمامها قائلة:

-توفت طفلة منذ عدة أسابيع بالحضانة ليلا، جراء تناولها لبن فاسد، هل تتذكرين تلك الواقعة؟ ضيقت عينيها تسترجع ذاكرتها قليلا قائلة:

-نعم أظن أنني ما زلت أتذكرها، لم يمر على الواقعة زمن طويل لكي أنساها، أنتبهت لها "عشق" واضعة ذقنها فوق كفها قائلة:

-حسنا أريد أسم تلك الطفلة وعنوان أهلها، نهضت الموظفة من مكانها متجهة إلى أحدي الأرفف المرصوص فوقها دفاتر كثيرة قائلة وهي تتناول أحداثها:

-أتذكر تلك الليلة جيدا وكيف كان أهتمام دكتور "مهاب" بأن ينهي إجراءات خروج الحالة، لكن ما جعلني أتذكرها جيدا شئ أخر، نظرت إليها "عشق" بعينيها مستفهمة ، أحضرت الدفتر وعادت تجلس مكانها فوق مكتبها من جديد قائلة وهي تفتحه:

-ليلتها كنت أنا التى تمسك الوردية الليلية، حضر وأمرني أن أنهي الأمر وأنتهي سريعا من تسجيل بيانات الطفلة ، ليلتها كان والد الطفلة يقف بالخارج معه هذا الشخص الذي يدعي "سيد" والذى يلازم دكتور "مهاب" فى كل تحركاته، كان بينهما حديث لا يسمعه غيرهم، كمن يحاول أن يقنع أحد بأمر يرفضه، بعدها تركني دكتور "مهاب" أُنهي عملي وخرج يقف بجوار الرجل ، أعطاه ورقة بيضاء تشبه الشيك البنكي، أمسكها الرجل وقرأ ما بها وعاد يطويها ويضعها بجيبه ودموعه تغسل وجهه، لحظتها تبادل "سيد" و"مهاب" نظرات تشبه نظرة المنتصر، أنهيت ما طلبه مني وكان ميعاد انصرافِ قد حان، لكن الحمد لله أنني من قمت بتسجيل بيانات الطفلة والأ كنت سوف تعانين كي تصلي إليها، توقفت أمام صفحة مردفة :

-ها هي بياناتها كما سجلتها بالضبط، أمسكت "عشق" ورقة وقلم قائلة:

-حسنا أملي علي بياناتها، أخذت تكتب ورائها ما تقوله، أنتهت مما تريده، هبت واقفة واضعة الورقة في جيب البالطو الأبيض قائلة وهي تصافحها:

-شكرا لك على تلك الخدمة، لكن لا أريد أن يعرف أحد مهما كان أنني حضرت هنا وسألت على تلك التفاصيل، شدت الموظفة على يدها قائلة:

-لا تشغلي بالك أنا لم أراك منذ زمن ، أبتسمت لها مودعة  أياها، سارت داخل ردهة المستشفى وعقلها مشتت فى أكثر من أتجاه، لم فعل "مهاب" هذا؟! ولم هذا الأهتمام بتلك الطفلة؟! وما حقيقة تلك الورقة التى تشبه الشيك الذى أعطاه لوالد الطفلة ؟! ولم أعطاه إياه؟! يا الله يبدوا أننا مقبلين على شئ كبير، أسأل الله اللطف، أصطدمت "بنهال" التي توقفت تنظر لها قائلة:

-ماذا بك؟! ومن أين أنت أتية هكذا؟! أليس لديك عملية الأن مع دكتور "قاسم"، تنهدت "عشق" قائلة:

-لا لم أنسى طبعا، سوف أذهب الآن ونتحدث لاحقاً، تركتها ماضية حيث غرفة العمليات، حضر "خالد" يقف بجوار "نهال" يُشيع "عشق" بعينيه قائلا:

-إلى أين ذاهبة "عشق"، نظرت إليه قائلة بحيرة:

-لديها عملية الأن، أشعر أن هناك أمر يشغلها، سار "خالد" وهو يجذبها أن تسير معه قائلا:

-من الممكن أن يكون أرتباطها "بعمر"وربما هناك شئ يخص عملها ،لا تشغلي بالك هي بخير، صمت ولسان حاله يهمس قائلا:

-أعرف فيما يكون شرودها، لكن ليس لدي خيار سوى أن أصمت ولا أخبر أحدا بالأمر حتى ننهي ما بدأناه،مرت أربع ساعات أنتهت فيهم "عشق"ودكتور"قاسم" من إجراء العملية التي كانت تحت إشرافهما، خرجا سويا من غرفة العمليات، مدت يدها تزيل الكمامة الطبية عنها قائلة:

-شكرا لك دكتور "قاسم" على مساعدتك، كانت عملية صعبة لولا فضل الله ومساعدتك، وقف أمامها قائلا:

-لم أفعل ما يستحق الشكر، أنت من فعلت كل شئ ، دوما أنا معك فى أى شئ تريدينه، سوف أذهب أمر على بعض الحالات، تركها ماضيا مع إحدى الممرضات ، ذهبت "عشق" إلى مكتبها تغير ملابسها، جلست تستريح قليلا،أمسكت بالهاتف وقبل أن تطلبه، وجدت أسمه ينير الشاشة أمامها ضحكت وهى تجيبه قائلة:

-كيف عرفت أنني كنت أتصل بك؟! جاءها صوته يضحك قائلا:

-قلب المؤمن هو دليله، فما بالك إن كان مؤمنا عاشقا؟! دوما أشعر بكِ حتى وأنت لست أمامي، أنهيت عملك فورا أليس كذلك؟! بهدوء شديد ردت عليه قائلة:

-نعم أنهيته للتو وحضرت إلى مكتبي كي أحادثك،لگنك سبقت كعهدك دوما معي، أمسك بمفاتيح سيارته قائلا:

-حسنا دقائق وتجدين أمام المستشفى، أنا هنا بجوارك لم أغادر، بتعجب شديد جاوبته قائلة:

-كل هذا تنتظر بالطريق يا "عمر"؟! أدار محرك سيارته قائلا:

-حضرت إلى كافية بجوارك شربت قهوتي وانتظرتك، يكفيني أن أكون بجوارك حتى وإن كنت بمكان وأنا بمكان، نهضت تمسك حقيبة يدها ومعطفها قائلة:

-دقائق وتجدني بانتظارك أمام الباب، أغلقت الهاتف تضعه فى حقيبتها، مسرعة باتجاه باب الخروج، وجدته يقف أمامها، تجاهلته ماضية فى طريقها، جرى خلفها يمسكها من ذراعيها قائلا:

-أريد أن أعرف منك شئ واحد ، ما الذي يوجد به ليس بي؟! سنوات ألهث خلفك كى أحصل منك على كلمة حلوة دون جدوى، وهو مجرد أيام تعرفينه بها، وتتعلقين به كل هذا التعلق، لم كل هذا؟! هل لديه مال مثل الذي عندي؟! هل يتمتع بسمعة أكبر من سمعتي؟! جاوبي لم هو وأنا لا؟! دفعته بعيد عنها قائلة بغضب:

-أترك يدي أيها المجنون وإلا صفعتك أمام الجميع، ولن أترك لك عين تنظر بها إلى أحد منهم، ماذا تريد مني؟! تريد أن تعرف لم هو؟! حسنا سوف أخبرك؟!نعم أنا أحب "عمر" لأنه يمتلك ما لا تستطيع أموالك ولا سمعتك التى تتحدث عنهما أن يمتلكاه، لديه قلب نظيف يعرف كيف يحب، أنت إن ملكت الكون سوف يظل ينقصك ما هو أهم، وهو كيف تصبح إنسان لديه مبادئ وشرف، صدقني ما زال ينقصك الكثير،إن لم يكن ينقصك كل شئ، القلوب لا تشترى بالأموال، إن كنت تعتقد أنك تستطيع شرائي كباقي ما تشتريه، فأنت واهم ، لأنني غير قابلة للبيع أو الشراء، والأن أغرب عن وجهي ، دعني أكمل طريقي، وللمرة الأخيرة، إن أعترضت طريقي مرة أخرى سوف أجعلك  تكره نفسك، إن كنت تحبها من الأصل،تركته ماضية في طريقها، لتجد "عمر" ينتظرها، ما أن رأي وجهها مكفهر، حتى نزل من السيارة مسرعا ناحيتها، أمسكها من ذراعها قائلا بلهفة:

-ماذا بكِ حبيبتي؟! هل حدث شئ يزعجك؟! نظرت خلفها تمسك يده وهى تسير باتجاه السيارة قائلة:

-لا شئ لنذهب من هنا، صعدت إلى السيارة وهو بجوارها ماضيا فى طريقه إلى النيل وعم "مسعود"، تركها طيلة الطريق صامتة، تركها تهدأ لأنه يشعر أن هناك شئ تخفيه عنه، وصلا إلى المرسي، أمسك يدها تهبط معه السلم المؤدي إلى النيل والمركب، صعدت معه وسط ترحيب عم "مسعود" بهما، جلست بجواره فى حين ذهب عم "مسعود" يحضر بعض الأطعمة لهم، أحاطها "عمر" بذراعيه حتى شعرت بدفء أنفاسه قائلا:

-تركتك طيلة الطريق دون كلام كي تهدئي، الآن أخبريني ماذا حدث؟! تنفست بعمق تطرد ما بداخلها من هموم ، أخبرته بكل شئ من أول ذهابها إلى الأرشيف حتى اعتراض "مهاب" لها، ضغط أسنانه بشدة قائلا:

-ذلك الحيوان الذى لم يتعلم كيف يكون رجل، له معي حساب سوف أنهيه بطريقتي، الآن أنسى كل ما حدث، سوف أجعله يندم على فعلته معك، أمسكت "عشق" وجهه بين كفيها قائلة:

-لا أريد منك أن تشغل بالك به، أنه أتفه من أن تهتمِ بتصرفاته، ما يشغلنى هو حادث الطفلة، ولماذ أعطي لأبيها شيك بنكي؟! عقلي يخبرني أن هناك شئ غير نظيف يحدث، فلتت من بين شفتي "عمر" ضحكة ساخرة قائلا:

-هذا مؤكد من أخبرك أن "مهاب" يفعل شئ نظيف،غدا سوف أذهب إلى بيت الطفلة وأعرف كل شئ، ولو أنني بدأت أعرف ما حدث قبل أن أبدأ بالبحث عنه، مالت برأسها دون إرادة منها فوق كتفيه محتضنة ذراعه بيديها، مال برأسه هو الأخر فوق رأسها وكأن كلا منهما يضع حمله فوق كتف الآخر، جاء عم "مسعود" يعزف فوق الناي نغمة قائلة:

"يا حبيبي  يا عبير الشوق يا حبيبي"

 

 

 

 

 

                         "الفصل الثامن والثلاثون"

 

                                "بغير موعد"

 

غرق "عمر" فى أوراق قضية جديدة ، كان يحاول أن يلملم حيثياتها، شمر عن ساعديه ساند رأسه بيديه، لم يشعر بشئ غير "ندى" التى وقفت أمامه قائلة:

-طرقت الباب كثيرا لكن دون جدوى، من الواضح أن هذه الأوراق تأخذك من كل ما حولك، رفع عينيه ينظر لها بستغراب قائلا:

-"ندى"! هل هناك شئ؟! لم أشعر بوجودك إلا حينما سمعت صوتك، ترددت ببصرها بين الأوراق الموضوعة أمامه وبين وجهه قائلة:

-هل هذه القضية هامة بهذا الشكل؟! عاد بظهره للخلف وهو يتأوه من ألم ظهره قائلا:

-مهمة جدا أنها ثاني قضية فساد أغذية، لكن تلك المرة مرفوعة من أحد المستوردين الذين حصلوا على الصفقة المغشوشة دون دراية منهم بحقيقتها، متحمس جدا لتلك القضية تعلمين لم؟! هزت رأسها بالنفي، تابع مردفا:

-لأن خصمنا بها هو نفسه "أسماعيل الشريف" مرة أخرى، لم يتخلص من طمعه وهذا الداء المتأصل به، وضعت يديها فوق فمها ، حينما سمعت أسم"الشريف" قائلة:

-وهل ستقف خصما له بعد أن كنت محاميه؟! أزاح من فوق عينيه نظارته الطبية قائلا:

-نعم سوف أكون خصم له، لأنني حذرته المرة السابقة من أن يعود لتلك الأعمال مرة أخرى، ولأنني قطعت عهد على نفسي ألا أدافع عن مثل تلك الجرائم مهما حدث، فرصة لي كى أكفر عن وقوفي بجواره من قبل، لكن دعينا من تلك التفاصيل ، أخبريني هل أحد بالخارج، وقفت وهى تشير للخارج قائلة:

-نعم، هناك شخص يريد مقابلتك ، أسمه"مهاب الأيوبي" رفع حاجب عينيه فى تعجب قائلا:

-"مهاب"؟! هنا بمكتبي؟! نظرت إليه تحاول أن تفهم لم هذا الأستغراب، ومن يكون هذا "المهاب" إلا أنه أوقفها قائلا:

-أدخليه ولا أريد تليفونات حتى يذهب من هنا، خرجت كما أمرها، يبتسم فى صمت هامسا:

-جئت إلى بقدميك دون أن أسعى إليك،دخل "مهاب" يقف أمام مكتب"عمر" الذى تشاغل فى إستكمال الأوراق التي أمامه، يفتح "مهاب" أزرار حلته وهو يقلب عينيه بالمكان قائلا:

-مكتب فخم يليق حقا "بعمر الراوي"يرفع عينيه إليه وهو يشير له بالجلوس قائلا:

-كما تعلم يا "مهاب" لا يليق "بالراوي" سوى كل شئ غالي وثمين، جلس أمامه واضعا ساقا فوق ساق قائلا:

-مرحبا بك ما السر وراء تلك الزيارة المفاجأة؟! لا أظنك إشتقت إليك،من مثلنا لا يشتاق أحدهما للأخر، لأن كلانا لا يحب صاحبه، تعجب "مهاب" من رد فعل "عمر" الذي شعر أنه لا ينوي له خير، أخرج من جيبه شيك وضعه أمامه، ضيق "عمر" عينيه قائلاً وهو يمسك به يقرأه:

-من أين تأتي بكل تلك الشيكات؟! هل دفترك هذا لا ينتهي؟!لكن أخبرني أولا

لم هذا الشيك الذي لم تضع به أي مبلغ؟! أفهم من هذا أنك تترك لي حرية أختيار المبلغ الذي أريده، لكن دعني أولا أعرف ما هى تلك الخدمة التى تريدها مني كي أستطيع تحديد قيمتها، أخرج "مهاب" علبة سجائره الغالية يقدمها إلى "عمر" الذى رفضها قائلا:

-لا أحب تلك السموم، هات ما عندك دون مقدمات، أشعل "مهاب" أحد سجائره، ينفث دخانها فى الهواء قائلا:

-أريد منك تلك الأوراق التي عليها إمضائي، لوي "عمر" عنقه قائلا:

-تقصد عقود الصفقة المغشوشة؟! ولم تريد الحصول عليها؟! ألست واثق من صفقتك؟! أم أنك تعلم أن جميع صفقات مشبوهة تماما مثل أخلاقك، كظم غيظه قائلا:

-بماذا ستفيدك تلك العقود أنا لم أشتكي الطرف الأخر بالعقود، وهو كذلك، إذن ما أهميتها لديك؟! أنا أعرض عليك المبلغ الذى تحدده مقابل أوراق لا قيمة لها، من منا الكسبان فى تلك الصفقة إذن، زفرت من بين شفتي"عمر" ضحكة ساخرة قائلا:

-وهذا ما يؤكد لي أن وراء عرضك شئ كبير لا تريد الإفصاح عنه، إن كنت تري الأمر كذلك حقا، لم تلقي بأموالك فى الأرض مقابل أوراق لا تهمك فى شئ، هم  "مهاب" أن ينطق لولا أن أوقفه "عمر" بأشارة من أصبعه قائلا:

-قبل أن تبحث عن كذبة تسوقها إلي ، وفر عليك أي كلام، لأنني ببساطة لن أصدقك فى أي شيء تقوله، خذ شيكك هذا وانصرف، ليس لدي وقت أضيعه معك،ولا أنت ضيف مرحب بوجوده هنا، من الممكن أن تبحث عن والد طفلة جديدة ماتت من جراء صفقتك المشبوهة، كى تشتري سكوته به، صعق "مهاب"حينما سمع هذا من "عمر"، حاول أن يستجمع شجاعته لكنها خانته، ضربه فى مقتل فجأة، دون أن ينبه أنه يحمل له سكين، أشار "عمر" ناحية الباب مردفا:

-أنتهي وقتك معي، علمت أنني لا أُشتري بالمال، لكن وعد مني سوف أصل لوالد الطفلة وأعرف منه حقيقة كل شئ، إن لم أكن عرفتها من الأن، أتجه "مهاب"ناحية الباب يريد أن ينهي تلك المقابلة التي لم يكن يعلم أنه غير مؤهل لها، فقدرات "عمر" فاقت ذكائه، بصوت عالي عاد الأخير يناديه وهو يفتح الباب قائلا:

-"مهاب" هناك شئ أخر أهم من كل ما قلناه الآن ، إستدار إليه يستمع لما يقوله، وقف "عمر" مردفا:

-"عشق" خط أحمر، وإن كنت لا تعرف ما معني الخط الأحمر، دعني أخبرك الأن أيضا، عند عتبات "عشق" وتقف لا تتعدى هذا الخط ولا تفكر فى ذلك، لأنك إن فعلتها سوف تجدني أنا من أمامك وليست هي ، لأنها سوف تكون خلف ظهري تحتمي به ، ومن يحتمي "بعمر الرواي" لن أدع يد تطوله وإلا قطعتها، فهمت ما قلت، ألا "عشق" أنها بكفة والعالم بما عليه فى كفة أخري، لا تنسي ذلك، فتح "مهاب" الباب يغادر وكله يشتعل حقد وغضب، ركب سيارته يحاول أن يستجمع نفسه، أمسك هاتفه يطلب "سيد" وما أن جاوب أتصاله حتى هدر فيه كإعصار قائلا:

-أيها الغبي أين أنت؟! ما زلت نائم والدنيا تنقلب من حولي، أفق من تلك الغيبوبة التى أنت بها، أمامك نصف ساعة من الأن وأجدك أمامي داخل مكتبي بالمستشفى، أغلق الهاتف دون أن يدع له فرصة للرد عليه، ضرب عجلة القيادة أمامه بعنف قائلا:

-حسنا واحدة بواحدة والبادي أظلم،سوف أجعلك تندم يا "راوي" على كل حرف نطقت به الآن، ولتكن الحرب بيني وبينك.

 

 

 

 

  

                             "الفصل التاسع والثلاثون"

 

                                   "مؤامرة"

 

كلما كان خصمنا ضعيف الموقف واهي الحجة، كلما كان دفاعه عن نفسه منحط المنطق، يفعل ويدير كل شيء فى الخفاء، لا يستطيع أن يواجه وجه لوجه، لأنه يعلم جيدا ، أنه كخيال ظل هبت ريح تصفعه، توقعه أرضا، كلما كان خصمنا دنئ علينا أن نتوقع أي شيء منه حتى ولو كان رخيص.

 

 

وقف "مهاب" بسيارته أمام المستشفي، ظلت عينيه تمسح الشارع حوله ،بحثا عن "سيد"،عاد يفكر من جديد فى أن يقابله بعيد عن المستشفى، كي لا يراه أحد ويكثر اللغط من حوله، وهو يحاول أن يُبعد عنه أى شبهة على الأقل تلك الفترة، بعد أن عرف "عمر" عنوان والد الطفلة، مر "سيد" من أمامه مندفع ناحية المستشفى، ناداه بصوت عالي سمعه رغم زحام الطريق، وقف ينظر باتجاه الصوت، رأه يشير إليه وهو داخل سيارته، ألقي بسيجارة كان يشعلها مسرعا ناحيته، فتح باب السيارة يجلس بجواره قائلا بطريقته التى لا تخلو من البلطجة:

-ماذا حدث "مهاب" باشا، هل تعرض أحدهم لك؟! أخبرني وأنا أنهي حياته فى التو،نظر إليه باشمئزاز واضح قائلا:

-أخبرتك مليون مرة من قبل،ألا تناديني باشا ، لم أدخل الطب كي ينادوني فى النهاية بهذا اللفظ، دعك من هرائك هذا الآن ،أريدك فى غمضة عين أن تذهب إلى والد الطفلة الأخيرة التى توفت بالحضانة، وتعطيه هذا الشيك، تخبره إن حضر إليه أي شخص مهما كان، ألا ينطق بشئ مما حدث، وعليك أن تتأكد أنه لن ينطق فهمت؟ نظر إليه وهو فاغر الفم كالأبله قائلا:

 -طفلة من؟! ووالد من؟! ماذا تريد مني أن أفعله بالضبط؟! لكزه "مهاب" فى كتفه بعنف قائلا:

-يا غبي أراك تتعاطى شيء أضاع عقلك أكثر مما هو ضائع، مسح "سيد" أنفه وهو يضحك قائلا:

-كما تعلم لا أستطيع أن أركز فى شئ دون هذا السم، أمسكه "مهاب" من مقدمة ثيابه مردفا:

-ركز جيدا فيما أقوله، تعلم عنوان الطفلة وتعرف أبيها جيدا،أنت من أحضرته إلي ،أمامك ساعة واحدة تذهب إليه وتفعل ما طلبته منك، والأن أغرب عن وجهي هيا ولا تعد دون أن تحقق ما أردت، أشار له سيد بيده وهو ممسك الشيك باليد الأخري، ترجل من السيارة يجري يوقف تاكسي قائلا:

-حي الغورية ، تنهد "مهاب" بضيق واضح بعد أن شيعه بنظره وهو ينصرف قائلا:

-أتعامل مع أغبياء، لا يقلون غباء عن "عشق" التي لم تعرف قيمتي وذهبت تحب رجل غبي مثلها، أه تذكرت علي اليوم أن أنتهي منه هو الأخر، الذكاء يحتم علي أن أضرب عصفورين بحجر، "سيد" ذهب ينهي مهمة والد الطفلة، وأنا وكلت إلى نفسي مهمة ضرب "عمر الراوي" فى مقتل، فكل واحد ومقامه عندي، ومقامك يا "راوي" كبير كحجم كرهي لك، لذلك علي أنا بنفسي أن أقدم لك تلك الضربة وليس أحد من أتباعي، تحرك بسيارته وعلى شفتيه أبتسامة خبيثة ، توقف أمام فيلا "الراوي"  أخذ يقلب عينيه بالمكان قليلا، لم يجد سيارة "عمر" علم أنه ليس بالبيت، ترجل من السيارة ، دلف إلى الحديقة الواسعة، رأه الحارس أسرع إليه قائلا:

-أي خدمة من الممكن أن أقدمها إليك؟! أبتسم له قائلا:

-أريد مقابلة السيد "عمر" أنا صديق له قديم عائد للتو من الخارج، نظر الحارس للطريق قائلا وهو يشير له بيده:

-لقد غادر منذ قليل، لا يوجد أحد بالداخل سوى السيدة " عليا"، لمعت عينيه كمن حصل على ما يريد قائلا:

-حقا هي بالداخل ؟!حسنا سوف أذهب أسلم عليها،هي الأخري صديقة لي من أيام الدراسة، أفسح له الطريق قائلا:

-تفضل هى بالداخل، تركه الحارس يخطو باتجاه باب الفيلا وذهب يرى ما وراءه من أعمال، وقف أمام الباب يتنفس بعمق، ضرب الجرس ، دقائق وفتحت له "حسنية" التى وقفت تنظر إليه باستغراب، تلك المرة الأولى التي تراه بها قائلة:

-أى خدمة؟! تطلع بعينيه للداخل من خلف ظهرها قائلا:

-أريد مقابلة السيدة "عليا" ، لوت عنقها قائلة:

-من أنت كي أخبرها؟! عدل من حلته قائلا:

- "مهاب الأيوبي"، مرت ثواني وهي تحاول أن تستجمع الأسم، تشعر أنها سمعته من قبل ، لكن أين؟ لا تتذكر، أشارت له بالدخول، سارت أمامه وهو يتبعها، وصلت إلى البهو الكبير المطل على حمام السباحة بالحديقة، كانت "عليا" تجلس تقلب أحدي المجلات بيدها وقفت أمامها "حسنية" قائلة:

-هذا الضيف يريد مقابلتك، رفعت عينيها إليها ثم إليه قائلة:

-يريد مقابلتي أنا؟! أومأت لها برأسها ، نهضت تصافحه قائلة:

-تفضل من أنت ؟! وفى أى شئ تريد مقابلتي، نظر إليها باستغراب شديد مفتعل قائلا:

-ليست تلك هي السيدة التي أريدها، أقتربت منه "حسنية" وهى تشير إلى "عليا" قائلة:

-هذه هي السيدة "عليا" ، التى طلبت مقابلتها، ضرب مقدمة رأسه قائلا:

-أنا كنت أعتقد أن زوجة السيد "عمر" هى الدكتورة "عشق"، فأنا أعرفها جيدا ، أنها تعلم طبيبة قلب لدينا بمستشفى "عبد الرحمن الأيوبي" وعلمت أن هناك قصة حب مشتعلة بينها وبين "عمر" وأنهما سيتزوجان قريبا، لذلك جئت أهنئها، فهي صديقة لي ورفيقة مهنة واحدة، من الواضح أن هناك سوء تفاهم قد حدث، أعتذر وهم بالمغادرة، لولا أن أوقفه صوت "عليا" قائلة:

-أنتظر من فضلك، ضحك كشيطان رجيم يستدير ناحيتها قائلا وهو ينظر للأرض:

-خير سيدة "عليا"، سامحيني على ما فعلته من سوء تصرف، أشعر بك وبكم جرحك من أحساس الخيانة التي تعرضت له، لكنني لم أكن أعلم أن "عمر" متزوج إنسانة  جميلة مثلك، وينظر إلى  أخرى مهما حدث، أقتربت منه تحاول أن تكبح ثورة عارمة بداخلها قائلة:

-لا عليك أريد فقط عنوان المستشفى،أعطاها العنوان وهو يسرع بالمغادرة، أغلقت "حسنية" خلفه الباب واقفة مكانها قائلة:

-مستشفى "عبد الرحمن الأيوبي" والد "خالد"هل من المعقول أن يكون مثل هذا الشخص هو شقيقه، الذى سمعت عن سوء أخلاقه كثيرا؟! ولم لا؟! وما فعله الأن دليل على ذلك، أنه جاء متعمد، كي يُوقع بين "عليا" و"عمر" أقتربت من "عليا" التى أحمرت عيناها من شدة الغضب قائلة:

-لا تصدقيه من الواضح أنه كذاب ويريد الوقيعة بينك وبين زوجك، رفعت حاجب عينيها قائلة:

-أنتِ أكثر من يعلم أن ما قاله صدق، تعرفين أنه مشغول بغيري، وأنا أيضا أعرف ذلك، سنوات وأنا أبحث خلفه عنها، أريد أن أعرفها، أعرف من هذه التى دوما ما أراها وأستشعر وجودها بيني وبينه، تعلمين أن ما قاله حقيقة ، لم تحاولين أن تخفيها عني؟! كان ينقصني فقط أن أعرف أسمها وعنوانها، وها أنا أعرفه دون سعي مني، جرت تصعد الدرج ذاهبة إلى غرفتها، أمسكت "حسنية" الهاتف تطلب "عمر" الذى جاءها صوته مهللا قائلاً:

-كيف حالك يا دادة؟! بصوت منخفض جاوبته قائلة:

- "عمر" لقد حدث شئ هام الأن، أستمع إلي ،روت له كل ما حدث، بهدوء تام رد عليها قائلا:

-لا تخافي يا دادة ، ليس هناك شئ أخجل منه كي أخفيه أو أخاف أن يعرفه أحد، تعلمين من هي "عشق" بالنسبة لي؟! لن أخفيها أكثر من هذا، "مهاب" قدم لي خدمة لن أنساها له، وإن كان فى قرارة نفسه يفهم أنه فعل ما يضرني، يكفي لهذا الحد ضياع لسنوات عمري وهدر لمشاعري ونزف لقلبي، قد أكتفيت، "عليا" على رأسي أنها زوجتي ولن أظلمها فى شئ، لكن "عشق" هي الروح والدماء التى أحيا بها ولن أتنازل عنها مهما حدث، صوت خطوات مسرعة على الدرج، تركت "حسنية" السماعة وهذه تري من؟ وجدت "عليا" قد أبدلت ملابسها وتتجه للخارج ، نادتها لكنها لم تقف لها، عادت مرة أخري إلى "عمر" قائلة:

-لقد غادرت "عليا" يا "عمر"، أشعر أنها ذاهبة الأن إلى "عشق"، فقد أعطاها هذا الحيوان عنوان المستشفى، أخاف أن تفعل شئ لها أمام من هناك وتسيء إليها وهي لا تعرف شئ، ولا تعرف أنك متزوج ، لا أعرف ماذا أفعل؟! نهض "عمر " وهو ينهي معها الإتصال قائلا:

-سوف أذهب الأن إلى "عشق"، نسيت أن أخبرك أنا الأخر شئ، تعرفين مع من يعمل "سيد" أبنك؟! يعمل مع هذا الرجل الذى تتحدثين عنه،أظن الآن باستطاعتك أن تعرفين أي طريق يسلكه، أنهي الأتصال وهو يسرع للخارج، ركب سيارته وانطلق بسرعة الريح قائلا:

-من الممكن أن أتقبل اي شئ ، باستطاعتي أن أتحمل أى ضربة مهما كانت، ألا شئ واحد لن أتحمله هو فراق "عشق"

 

 

 

                             "الفصل الأربعون"

 

                                 "وجع أبكم"

 

 

مهما كانت مهارتنا على ترجمة مشاعرنا، مهما أمتلكنا ناصية الكلام وبوح الجمل، تأتينا لحظة وجع ، تضرب قلوبنا بسوط قاسي ، تقطعه قطع متفرقة دون هوادة أو رحمة، وقتها فقط نصاب بالخرس، نسقط أرضا من أرتفاع شاهق، يكسر رقبتنا دون صوت ،مهما كنا أقوياء ، نضعف، نتوه، نتألم، ولا نمتلك قدرة البوح بما يمزقنا ويكسر ضلوعنا، ليس لأننا لا نعلمه، بل لأننا لا نمتلك القدرة على إستيعاب أنه أتانا ممن نحب.

 

بجنون محموم غير مسؤول عن تصرفاته ، قصدت "عليا" مستشفى "الأيوبي" كانت ترتدي أفخم الملابس، تتحلى بأغلى المجوهرات، حتى عطرها الثائر كان معروف الماركة ، وقفت بسيارتها أمام المدخل الكبير، نظرت بالمرآة أمامها تتأكد أن كل شئ بها بكامل زينته، كمن ذاهبة لحضور حفل زفاف، هكذا أحساس النقص، نحاول أن نخفيه  فى أى شئ ،كى لا يراه من أمامنا يملأ نفوسنا، نحاول أن نظهر كاملين المظهر وإن كنا ناقصين الجوهر، ترجلت من سيارتها بحذائها ذات الكعب العالي، تمسك حقيبة يدها الجلدية الباهظة الثمن، هذا ما استطاعت أن تأخذه من "عمر" أخذت منه الكثير من أمواله وأسمه، لكنها مهما فعلت لن تستطيع أن تأخذ شئ من مشاعره، الصادقين حينما يحاولون يصلون، لأنها ليست صادقة فى مشاعر الحب الذى تدعيه له، لم يكن بإمكانها أن تصل إلى قلبه، كانت تحب نفسها فقط، لهذا ضربت حوله سور عالى من الغيرة المحمومة،معتقدة أنها حب، دون أن تدري أن من يحب يطلق العنان لمن أحب، كطير حر طليق، يحلق كيفما يشاء، وقت أن يشاء، لأنه واثق أنه سوف يعود إليه لأن ما بينهما حب وليس شئ آخر، قصدت المستشفى تسأل عن "عشق" موظف الإستقبال،الذي أخبرها أنها بصحبة كابتن " خالد" ودكتور "نهال" بكافية المستشفى، سارت كما وصف لها ، وقفت أمام الباب تتطلع بالموجودين، رأت "خالد" يجلس بأحد الأركان بصحبة أثنتين، دون إرادة منها تعلقت عينيها بوجه "عشق" الضاحك، وهي تتحدث إلى "خالد"، شعرت أنها هي من تبحث عنها منذ سنوات، تسمرت مكانها كمن غرق فى بحر عميق، جميلة هي، ثائرة، بريئة، ينم مظهرها على شقاوة طفولية، وكبرياء أصم، وهدوء كبير، خليط هي بين أشياء كثيرة تتخللها، تنفست بشدة ماضية باتجاههم، رافعة رأسها لأعلي فى محاولة منها لأن تبدو قوية، وقفت أمام المنضدة قائلة وعينيها تنظر إليها :

-كيف حالك يا "خالد"؟!يغمض عينيه كمن عرف الصوت ، رفع رأسه إليها يحاول أن يُكذب أذنيه قائلا:

-أهلا بكِ، لم أنت هنا ؟! هل لديك زيارة لأحد تعرفينه؟! كانت "عشق" تجلس كما هي تتحدث مع "نهال" بانفعال واضح ترددت عيني "خالد" بينها وبين "عشق" يفكر كيف ينهي هذا الموقف دون أن تعرف الأخيرة شئ؟! الأ أن "عليا" كانت أسرع منه قائلة:

-لا ليس لدي زيارة لأحد هنا، أنا فى زيارة تخص الدكتورة "عشق" رفعت وجهها إليها وهي تشير إلى نفسها قائلة:

-تريدين مقابلتي أنا؟! من أنتِ وفى أى شئ تريديني؟! هل من مساعدة أقدمها لكِ، رفعت حاجب عينيها تنظر إليها بتمعن شديد، جعل "نهال" تتعجب منها ، تنظر إلى "خالد" تسأله بعينيها من تلك المرآة التي تستعرض بملابسها ومجوهراتها حتى رائحة عطرها الذي لا يناسب المكان؟! وضعت حقيبتها فوق المنضدة قائلة:

-أسألي "خالد" سوف يخبرك من أكون؟! ولم أنتظره أنا سوف أخبرك، أنا "عليا" زوجة "عمر الراوي" هل تعرفين ذلك الأسم ؟! عض "خالد" شفتيه بشدة، يريد أن يطيح بكل شئ أمامه، جحظت عيني "نهال"، إلا " عشق" لم يكن لها أي رد فعل، كمن تجمد بها كل شئ فجأة، صوت الجملة يُحدث دوي بين ضلوعها كرصاصة أطلقت دون رحمة ودون تمهيد لتستقر بقلبها تمزقه، حاولت أن تسألها ماذا قولتِ؟! لكنها لم تمتلك القدرة على النطق، شئ بها تكسر، شئ بها ينزف نزف مميت دون أن يراه أحد، ظلت صامتة، تائهة فى وجوه من حولها، إلا هو،  تقبل أى شئ وكل شئ ، إلا شئ يسقطه من عينيها ،إلا هو الأمان الذي وجدته وسط حروب الأرض، كيف له أن يتحول إلى وجع مميت بهذا الشكل؟! حاول "خالد" أن يجذب "عليا" للخارج كى لا يتفاقم الموقف، إلا أنها أزاحته بجنون بعيد عنها قائلة بصوت مرتفع جعل من بالمكان ينتبهون لما يحدث قائلة:

-لم هذا السكوت هل أصابك الخرس الأن؟! حينما رأيت زوجة من تلهين معه ليل نهار؟! أم أنك لم تتوقعين أن تريني أمامك الأن؟! أخبريني هل لديك أخلاق وضمير لتسرقي زوج من بيته وزوجته؟! ضاقت عليك الأرض ولم تجدي أمامك غيره، أى أخلاق تلك إن كنت حقا صاحبة خُلق؟! علت الهمهمات حولهم، وكل هذا و"عشق" صامتة تماما، نهضت "نهال"من مكانها قائلة:

-إن كنت أنت صاحبة خُلق كما تدعين؟! ما فعلتِ ما فعلتيه الأن، تعتقدين أن تصرفك الهمجي هذا صحيح، له حق "عمر" يتركك ويبحث عن غيرك،لأنك لا تليقين به وما هذا الذى ترتديه ؟! تفقدين حتى الذوق في اختيار ما يناسب المكان الذي تذهبين إليه، كادت أن تطيح "بنهال" هي الأخري، لولا صوت "عمر" الذي أوقفها قائلا:

- معك كل الحق فيما نطقتِ به "نهال" نظر إليه "خالد" قائلا:

-أين كنت يا "عمر"؟! لقد أهانت "عشق" بما يكفي، خطي بانفعال واضح حتى وقف أمامها يمسكها من ذراعيها قائلا:

-لولا وجود تلك الناس ، كنت قتلتك فى مكانك هذا، حذرتك من قبل ولم تحترمي كلمتي، لكن الأن بعد ما فعلتيه ليس لدي خيار سوى خيار واحد، سوف تعرفينه حينما أعود إلى البيت،والآن أمام الجميع أقدم اعتذاري الشديد إلى الدكتورة"عشق"على كل حرف تفوهت به تلك السيدة فى حقها، وأنت أيضا أعتذري حالا لها، ولها مطلق الحرية أن تقبل أعتذارك أو ترفضه، حاولت أن تعترض إلا أن "عشق" نهضت من مكانها ، نظرت إليه نظرة عتاب صامت، جعلته يتألم دون صوت، فهم كل ما تريد قوله، شعر بكل ما تعانيه، بكى قلبه من أجلها، ولأنه كان سبب فى أن تحيا لحظة آلم واحدة، حاولت أن تمضي تاركة المكان بمن حولها، خطت خطوتين وهوت أرضا فاقدة الوعي، صرخت "نهال" باسمها، جري الجميع ناحية "عشق" يحاولون أن يحملونها، ألا أن "عمر" كان الأسرع إليها، حملها بين ذراعيه يجري بها ومن خلفه "خالد" و "نهال" قاصدين غرفة الإفاقة ، ظلت واقفة مكانها حتى أقترب منها أحد زملاء "عشق" قائلا:

-أظن أن لا مكان لك هنا ، تفضلي وجودك غير مرحب به، خرجت مسرعة، تستقل سيارتها مغادرة إلى بيت من ذبحته منذ قليل، وضع "عشق" فوق الفراش وهو يصيح كالمجنون  أفعلي شئ "نهال"، "عشق" جاوبيني ماذا بكِ؟! أفتحي عينيك أجعليني أرى النور من حولي مرة أخري، ضرب "خالد" بعنف مردفا:

-لم تركتها تفعل هذا يا "خالد"؟! لم لم تلقي بها خارج المكان؟! تصرفا أريد أن تفتح عينيها وتجاوب ندائي ، دخل مسرعا دكتور "قاسم" قائلا وهو يمسك بيد "عشق" يتحسس نبضها:

-أخبروني أنها وقعت بالكافيتريا ماذا حدث؟! أقتربت منه "نهال" قائلة:

-ماذا بها دكتور قاسم؟! خانتني شجاعتي أن أقترب منها، لأنها قطعة مني، ومن يكونون منا نقف عاجزين أمامهم، تعلقت به عيني "عمر" بلهفة يريد أن يسمع ما يطفئ قلق قلبه، دقائق وكانت يجري داخل أوردتها محلول به بعض الأدوية التي وضعها دكتور قاسم قائلا:

-أنها بخير، لقد تعرضت لصدمة عصبية لم تستطيع تحملها، سوف تفيق وتعود لطبيعتها، لا داعي للقلق، لكن لا يجب أن تتعرض لأي انفعال، تركهم مغادر، فى حين أقتربت منها "نهال" تقبلها، وقف "عمر" أمام الفراش يتطلع بوجهها بأسي شديد يكاد يفطر قلبه ، أشار "خالد" إلى "نهال" بأن يغادرا، خرجوا تاركين "عمر" بمفرده معها، جلس على ركبتيه أمامها يمسح فوق رأسها باكيا،أخذ يقبل يدها ورأسها دون كلام، كانت دموعه أبلغ من كل حروف العالم، لم يستطيع أن ينطق بأي شئ ، وكأنه فقد كل أحبته دفعة واحدة ، فصارت كل الحروف بكماء فى ترجمة ما يشعر به، غفي وهو يجلس مكانه يمسك بكفها بين يديه، فتحت عينيها رأته أمامها، حاولت أن تناديه، أن تضمه إليها كأم أغضبها طفلها، فأقسمت حينما تراه سوف تعاقبه، وحينما غاب عنها نهشها الشوق إليه، فنست ما قالته، عادت تغمض عينيها لكنه شعر بضمة كفها ليده، رفع رأسه ينظر إليها، رأها تبكي، أخذ يمسح دموعها محتضن رأسها قائلا:

-أعلم أنك غاضبة مني ، لا تريدين رؤيتي، لكنني أعلم أيضا أنك سوف تفهمين ما أقوله الأن ، نعم تزوجت لكن أقسم لك بالله العظيم وهو شاهد علي، أنني ظللت على عهدي لك ، لم أحب أحد سواك، لم يدخل هذا القلب الذى ظل بكر مثل جسدي تماما، لأنني رهنته لك منذ زمن، نعم تزوجت لكنه زواج بلا روح بلا مشاعر، كنوع من الأنتحار الذى كنت أود أن أُنهي به حياتي،لأنكِ لست معي، لا تصدقين أنني عرفت معنى أي شئ دونك،لا تعتقدين أني عشت يوم بعيد عنكِ، كانت كل حياتي مرهونة برجوعك وحضورك إلي، تزوجتها وأنا لا أعرف ما معنى أن يتزوج الإنسان بغير من يحب ، لكنني علمت أنه نوع من موت الرحمة الذى يتحدثون عنه، فرحت حينما أدركت أنني من الممكن مع الوقت أن أودع الحياة كي أستريح من العذاب الذى جعلني مقسوم نصفين، نصف يبحث عنك، ونصف يقيم لديك، ما تركتِ لي شئ يجعلني أتمسك بالحياة فى غيابك، لا أنكر أنني حاولت معها أن أحيا ، أن أستشعر أنني زوج ، لكن صدقيني كنت فى كل مرة أفشل، أكره نفسي أكثر، لم تستطع أوردتي ولا عروقي تلك أن تخونك حتى ولو بالأحساس، كل شئ بي كان يرفض خيانتك رغم أنك لم تكوني معي، أريدك أن تنسى كل ما حدث، أن تنسي أنك رأيتها اليوم وسمعت منها ما قالته، أنه مجرد حمم بركان لا فائدة منه سوى الحرق، "عشق" صدقيني ما بيني وبينها مجرد عقد، حبر على ورق، الزواج قبل أى شئ  رحمة ومودة، تلك الأشياء لم ولن أشعر بها دونك، هي لك وبك ومعك، خلقت لأحياها معك فقط دون غيرك، لم أتزوج غيرك، إن لم أكن تزوجتك حقا منذ زمن، نعم تزوجتك دون عقود لا تقيم حقيقة، كهذا العقد الذى بيني وبينها، تزوجتك بقلبي ودمي وكياني، صدقيني الزواج أكبر من مجرد شكليات وبشر يشهدون أننا زوجين دون أن يشعر أحد بما نحياه ، الزواج قبل أى شئ مشاعر تقسم على أثنين، يتشاركان كل شئ كل شئ، وما أنا به ما هو إلا مجرد صفقة، هى الوحيدة التى ربحت بها ، ربحت من عمري وحياتي وأعصابي، أما أنا كنت الخاسر الوحيد بها، لكن برجوعك لي من جديد نسيت ما خسرت، تأكدت أن عمري بدأ من جديد، سامحيني لأنني جعلتك تسمعين ما قالته لكِ، لكن عهد مني أمام الله سوف أرد لك ثمن كل ما قالته، الأن أريد منك شئ واحد فقط، أن تفتحي عينيك من جديد ، كى تري عيني من حولي، دونك أنا أعمي لا أري، ظلت مغمضة عينيها ، نهض يغادر المكان، أمسك بالباب يفتحه، نظر إليها يسرق نظرة من وجهها ، خرج مغادر مغلق الباب خلفه، شعرت به وقد غادر ، فتحت عينيها قائلة دون أن يسمعها:

- وأنا يا "عمر" لن أستطيع أن أكمل دونك.

 

 

     

 

                          "الفصل الحادي والأربعون"

             

                                "زيارة مفاجأة"

 

لا يجب أن نُهزم حينما يطعننا جبان، الهزيمة ليست للشرفاء، دوما الدفعة من الخلف تجعلنا فى الأمام، حينما يسقط سيفنا، لا يليق بنا أن نترك ساحة القتال، طالما نمسك بصهوة جوادنا جيدا، سوف نبقى ونُكمل حربنا، الجبان هو من يسلك طريق غير مشروع كى يصل فى النهاية لغايته، الوسيلة الغير نظيفة دوما تصل لغاية مشكوك بنواياها

 

ترك "عمر" "عشق" على حالتها كما هي، وقلبه يكاد يترك ضلوعه خوفا من أن يفقدها مرة أخرى بعد كل هذا التعب والأنتظار، خرج يبحث عن هواء يتنفسه، فقد شعر للحظة أن كل ما به يختنق لأنها ليست معه، وجد "خالد" واقف يتجاذب أطراف حديث مع "نهال"  شعر أنه يخص ما حدث ، أقترب منهما، أسرعوا إليه يطمئنون على حالتها ،وقف "خالد" يمسك بكتفه فقد شعر بما هو به قائلا:

-"عمر" كيف حال "عشق" الأن؟! نظر إليه نظرة أسي دون أن يجاوبه، جذبه من يده قائلا:

-"نهال" أذهبي من فضلك إلى "عشق" أبقى معها، سوف نخرج قليلا نستنشق هواء غير هواء المستشفى ونعود ثانية، مضي معه دون أى اعتراض، أستقلوا سيارة "خالد" الذي قادها قائلاً:

-أزمة وسوف تمر بكل ما تحمله، لن يبقى منها شئ غير حبك لها وحبها هي الأخري لك، هكذا هى العلاقات القوية تحتاج فى بعض الأحيان لهزة، كى نعرف قوتها ومن يحب بحق، وأنا أثق أن كلا منكما يحب الثاني بجنون، "عشق" سوف تكون فى أحسن حال، أنت الذي أخشي عليه يا "عمر"، تلك هى المرة الأولى التي أراك فيها مهزوم بهذا الشكل، أخفي وجهه بين كفيه وراح فى نوبة بكاء شديد، جعلت "خالد" يوقف السيارة فجأة ، فتحدث صوت دوى كبير، أمسكه من يديه يحاول أن يزيحها من فوق وجهه، إلا أنه أبى، أخذ يهدأ من روعه قائلا:

-لم يا "عمر" ؟! الأمر لا يستحق كل هذا، صدقني سوف تعود "عشق" إليك، من يحب لا يستطيع ترك من يحب مهما حدث بينهما، الأمر بسيط أخرج الشحنة التي كانت بداخله قائلا:

- لا يا "خالد" الأمر يستحق ، حينما يكون الأمر متعلق بأعمارنا وقلوبنا فهو يستحق، عندما يتعلق بمن ظللت العمر كله أبحث عنها فهو يستحق دمي وليست دموعي فقط ، "عشق" تستحق كل دمعة أهدرتها، تستحق أن أذبح ما بقي مني تحت قدميها نذر لها كى تغفر لي، لم أقصد أن يحدث كل ما حدث، أخفيت عليها هذا الأمر لأنني حقا لا أتذكره، هو فى حياتي مجرد ركن مظلم سئ، لا أحب أن يطرق فكري ولو للحظة، لم أُخفي عليها بقصد الأخفاء، قدر خوفي من أن أفقدها، الأمر يستحق يا "خالد" لأنني ببساطة لو فقدتها مرة أخرى سوف أفقد حياتي معها، سوف أموت، صدقا سوف أموت، نموت يا صديقي حينما نودع من نحب وليس حينما تنتهي أعمارنا، هل علمت الأن أن الأمر يستحق دموعي ونحيب قلبي، لكن صدقني لن أترك "مهاب" ولن أترك ما فعله ، سوف ترى كيف سأرد له الصاع صاعين،هو أراد أن يضربني فى قلبي،لكن سوف أضربه أنا فى مقتل، تعجب "خالد  متسائلا:

-"مهاب"؟! ما دخله  فيما حدث اليوم؟! فلتت من بين شفتي "عمر" أبتسامة ساخرة قائلا:

-هو من رتب لكل هذا، الأن تعالي مكاني، سوف أقود أنا هناك زيارة يجب أن أقوم بها اليوم قبل الغد، ترك له "خالد" مكانه يقود السيارة، ترك "عمر" مصر الجديدة وضواحيها الراقية ، بدأ يعرج على أماكن شعبية، و"خالد" معجب حتى وصلوا إلى حي الحسين والغورية، أخرج "عمر" من جيبه ورقة نظر بها وأعادها مرة أخرى مكانها قائلا:

-أنزل يا "خالد" علينا أن نسير على أقدامنا، فتلك الشوارع لن تسمح بمرور السيارة داخلها، نظر إليه وهو يمط شفتيه قائلا:

-إلى أين يا "عمر"؟! لم نحن هنا؟! أنا لا أفهم شئ، فتح باب السيارة يغادر قائلا:

تعالي وسوف تعرف، تبعه "خالد" الذي أخذ ينظر حوله يتطلع إلى البيوت والدكاكين القديمة معجب بالنقوش التى تعلوها ورائحة البخور الممزوجة بالبن الطازج، نسي أصراره أن يعرف أين هم ذاهبون؟! وقف "عمر" أمام مقهى قديم تمتزج به الأصوات ما بين مؤيد لفريق الكرة الذى تذاع مباراته بالتلفاز، وبين صوت تهليل لأن أحدهما فاز على الأخر فى دور شطرنج، رآهما صبي القهوة، علم أنها غريبان عن الحي،أقترب منهما مرحبا بهما قائلا:

-أهلا بكما أراكما تبحثون عن أحد، أقترب منه "عمر" قائلا:

-أهلا بك ، نعم نحن نبحث عن البيت رقم ١٩ هل تعرفه؟! وضع الصبي الصينية التي كانت بيده وهو يشير له على أحد البيوت القديمة فى منتصف الشارع قائلا:

-هذا البيت الذى يقف أمامه بائع البطاطا، لكن من تريدون به؟! أقترب "خالد" يقف بجوار "عمر" الذى أخرج من جيبه بعض النقود يعطيها للصبي قائلا:

-نريد السيد " محمد عبد الرؤوف"وضع الصبي النقود بجيبه قائلا بأسي واضح:

-فهمت الأن ، جئتم كى تقدمون له واجب العزاء فى أبنته التى توفيت، أومأ له رأسه يريد أن ينهي الحوار ماضيا فى نفس الأتجاه الذى أشار له به، مضي "خالد" قائلاً:

-الأن بدأت أربط الخيوط ببعضها وبدأت الصورة تتضح أمامي، وصلوا للبيت، نظر إليه "عمر" وهو يدلف داخل البيت قائلا:

-لتترك باقي الصورة تتضح حينما نحصل على ما جئنا من أجله، كانت السلالم متهالكة، على من يصعد فوقها أن يكون حريصا، قابلهم طفل صغير، يقفز من فوقها بمهارة جعلتهما يضحكان، أمسك به "عمر" قائلا:

-من فضلك أين شقة "محمد عبد الرؤوف"؟! نظر إليه الطفل باستغراب قائلا:

-تريد أبي؟! تعالوا معي ، لم يترك لهما فرصة للرد، جري أمامهما يطرق أحد الأبواب، ففتح لهما رجل أربعيني، نظر إليهما باستغراب قائلا:

-تريدان مقابلتي أنا؟! أبتسم له "خالد" قائلا:

-هل سوف تتحدث إلينا ونحن هكذا وقوف على بابك، خجل الرجل قائلا وهو يفسح الطريق:

-المعذرة تفضلا لا أقصد، لكنني لا أعرف من أنتما؟! دخلوا إلى صالة بها أثاث قديم متناثر، حوائط تبدوا أنها قديمة من لون طلائها الباهت، جلسوا على أقرب مقعدين، جلس الرجل مرحب بهما، منادي على أبنه قائلا:

-أطلب من أمك أن تقوم بإعداد الشاي  للضيوف، أعتدل "عمر" فى جلسته على حافة المقعد قائلا:

-أعرف أنك لا تعرف أحد منا، وتستغرب من زيارتنا المفاجأة تلك ، دعني أقدم نفسي إليك أنا "عمر الرواي" وهذا صديق عمري كابتن" خالد عبد الرحمن الأيوبي" أصفر لون الرجل كمن هرب منه الدم فجأة وقف كمن لدغه عقرب قائلا:

-وماذا تريدان مني؟! أنا لا أعرف أحد منكما، ولم يعد لي أية صلة بمستشفى "الأيوبي" بعد موت أبنتي بها ، من فضلكم الوقت ليس مناسب لأية مقابلة أو كلام، نظر "خالد" إليه بتعجب شديد من رد فعله قائلا بحدة واضحة:

-لم نحضر اليوم ونقطع كل هذا الطريق من أجل أن نتعرف عليك، هناك شئ واحد جئنا من أجل معرفته ، قاطعه الرجل قائلا:

-وأنا ليس لدى ما أقوله أو أخبركما به، نظر "عمر" إلى حوائط الشقة قائلا:

-من الواضح أن "سيد" سبقنا إليك، تلعثم حتى كادت الحروف تسقط منه، حاول أن يبدو طبيعيا قائلا:

-"سيد" من الذي تتحدث عنه؟! أنا لا أعرف أحد بهذا الأسم، أقترب منه "عمر" ينظر بعينيه قائلا:

-ولا تعرف "مهاب" أيضا؟! أتجه ناحية الباب يفتحه وهو يشير لهما بالخروج قائلا:

-أنتهت الزيارة ، لا أعرف أحد ولا أريد مقابلة أحد، أبتسم "عمر" وهو ينظر إلى "خالد" الذى وقف مبهوت من تصرف الرجل قائلا:

-الأن فقد تأكد أحساسي وعلمت أن كل شكوكِ فى محلها، حسنا سوف نترك المكان ، لكن بيننا موعد أمام مصلحة الطب الشرعي كي نخرج أبنتك وموقع عليها الكشف الطبي، ونرى ما سبب الوفاة الحقيقي، هيا بنا يا "خالد" قبل أن يغادران جائهم صوت سيدة آتية من الداخل تتوشح بالسواد قائلة:

-أنتظر سوف أخبركم بكل شئ، أسرع الرجل إليها يمسكها من كتفها يحاول أن يدخلها ،ألا أنها دفعته بعيد عنها قائلة:

-أنا زوجته وأم الطفلة التى توفت، لا تسمعا كلامه ولا تصدقا تلك الثورة الكاذبة سوف أخبركما بكل شئ، جلست تروي لهم ودموعها تسبقها، مضت ساعة كاملة وهما غارقين معها في حديثها، أنتهت الزيارة وانتهى كل أحساس بالإستيعاب لدى "خالد" الذي سار بجوار "عمر" قائلا:

- هل من الممكن أن يحدث ما سمعنا يا "عمر"؟! هل بهذه الأرض من يمتلك كل تلك البشاعة؟! هل أنا خطأ لأنني لم أكن أحيا فوق هذه الأرض وكنت دوما طائر بالسماء؟! لا أستطيع حقا أن أتحمل ما قالته تلك السيدة، ولا أصدق أن أخي بتلك البشاعة ولا أن هناك من هم مثل "سيد" كل شئ لديهم قابل للبيع ،ركب "عمر" السيارة بجواره "خالد" قائلا:

-نعم هناك من هم أقذر مما رأيت، وهناك ما هو أبشع مما سمعت، حينما تجد الفقر لا تتعجب إن باع الناس كل ما يمتلكون ، حتى لحمهم وشرفهم يكون وقتها عملة يتربحون بها ، الفقر يجعل كل شئ سهل ومباح دون ندم أو وخزة ضمير.

 

 

                           "الفصل الثاني والأربعون"

 

                               "تصفية حساب"

 

نصير إعصار يطيح بكل ما يقف أمامه،إذا ما ألم بمن نحبهم ما يؤذيهم، لا نبقي على شيء مهما كان ، إذا امتدت يده بسوء لمن سكنوا القلب وحطوا رحالهم بين حنايا النفس، ننطلق كالبرق نخطف بصر كل من تسول له نفسه أن يُطلق رصاصة كلماته الطائشة نحوهم، كأم تحمي وليدها بين أحضانها من أى نسمة هواء قاسية تمر به، تتحمل قسوة برودتها ولا تتحمل أن تمس وليدها بسوء.

 

 

وصلت "عليا" إلى البيت كالمجنونة، ألقت بحقيبتها على طول يدها، أمسكت بإطار مذهب يحمل صورة "عمر" بداخله، ألقت به بعنف على الأرض، يتهشم  قطع صغيرة متناثرة، هرولت "حسنية " إلى مكان الصوت وهي تضع يدها فوق صدرها قائلة:

-ماذا حدث؟! ما هذا الصوت؟! رأتها تقف تدق بقدميها ما تبقى من الصورة، فُزعت حينما رأت ما تفعله، دفعتها بعيد عن الصورة، جلست على ركبتيها تجمع الإطار وتمسح الصورة مردفة بعنف:

- هل أصابك مس من جنون؟! ما هذا الذى فعلتيه؟! صورة "عمر" لا يُفعل بها هذا، سمعتِ ما قلت لك ِ، هذا الجنون والغرور الذى لا يليق بكِ لا تجعليه يدمر ما تبقى من حياتك، ما الذي حدث لكي تفعلي هذا؟! وجدت "عمر" يضع نظارته الشمسية ومفاتيح سيارته فوق المنضدة، يميل عليها يرفعها من الأرض، أستندت إلى يده، رأته وقد شعرت بكل ما يحمله، نزلت دموعها رغما عنها حينما رأت نظرته المذبوحة تتردد بين وجهها وبين صورته المكسورة التى تحملها، أخذها من يدها ينظر بها وهو يبتسم بحسرة، أقترب منها حتى وقف أمامها وجها لوجه قائلا:

-لم كل هذا؟! ما الداعي لتلك الحرب المحمومة ؟! هل صورتي تستحق هذا منكِ؟! صرخ وهو يمسك ذراعها مردفا:

-أنظري إلي وأخبريني هل أنا أستحق هذا ؟! ما الذي فعلته لكِ تعاقبيني عليه؟! هل هذا رد الجميل؟! تعلمتِ أن تقولي شكرا بتلك الطريقة، الإمتنان عندك أن تدبري المكائد لمن أكرمك ولم يفعل معك سوي كل خير، أنطقي ، ضعي يدي على جريمتي التي اقترفتها، حسنا سوف أخبرك أنا، أنت أنانية، لا تعرفين ما هو الحب،إن كنتِ تعرفيه لتعلمتي كيف تحبيني وتخافين من أجلي، إن كنت تعلمين كيف يدين الأخر لمن أمامه ما كنت فعلت ما فعلتيه، كنت صليت من أجلي ودعوت الله أن يجمعني بمن أحب، حتى ولو كان حبك لي أضعاف مضاعفة، الحب ليس تلك الأنانية والجمود والجحود الذي تغرقين بهم، أخبرتك قبل أى شىء، قبل أن يُكتب أسمك بخانة زوجة بجوار أسمي، أنني أحب من لا أعرف لها طريق، أخبرتك ولم أكذب فى شئ ، وخيرتك أن تكملي معي وأنت تعلمين أن كل ما أملك تحت أمرك وملك يمينك، ما عدا قلبي لأنه ليس لي أنا نفسي، قبلتي وراهنتِ أنك سوف تنسيني إياها، لكنك لم تستطيعي فعل ذلك ، تعلمين لماذا ؟! لأنك ببساطة أعتقدتِ أن هذا العقد الذى كتبه المأذون بأسمائنا، هو عقد شرائك لي، ضحكتي فى نفسك لأنك وقتها أخذتي أسمي ومن ثم لن أستطيع التفكير بغيرك، لم تهتمي أن تجعليني أحبك، لم تسعى لأن تحتويني ولو لمرة واحدة، لم تعطي لغرورك فرصة يقف ، يرى أين أنا منكِ ؟!قلت هو موجود فى أى وقت، ونسيت أني بشر، لم يعطيك قلبي نبضه، لأنه ببساطة يشعر بمن حوله،وشعوره بك دوما لم يتعدى تلك المسافة التي هي بيننا الأن، أنت لم تحبي "عمر الراوي" أنت أحببتي ما يفعله وما يقدمه لكِ "عمر الرواي لهذا كله وقفت بيننا الخطوات ولم تقدر أن تخطو أكثر من هذا، "عشق" التي جرحتيها اليوم وتفننتي في إهانتها لم تكن تعرف شئ عنكِ، ولا عن وجودك فى حياتي، أنطلقت كسهم مسموم ، يقتل كل ما تطوله يده، غبية ظننتي أن ما فعلتيه سوف يجعلني أعود إليك، خيل لك خيالك المريض أنك بما فعلتيه سوف تجعليني أبتعد عنها أو أتركها، في بداية الأمر كنت أنوي البقاء عليك فى حياتي، مع الحفاظ على كافة حقوقك، لكن بعد اليوم وما رأيته أمامي بعيني ،وما صنعتيه بصورتي، للأسف كل شئ عندي يرفضك، حتى تلك الحوائط أشعر أنها لا تريد أنفاسك بينها،إن كنت تمسكتِ بسعادتي وراحتي لمرة واحدة، صدقيني كنت تمسكت بطرف ثوبك ألف مرة، لكن من أكون عنده مجرد  شيء من ممتلكاته، فهو لا يعد عندي أي شيء، ولا تراه حتى عيني، أخبرتك أن تأخذي كل ما تريدين عن طيب خاطر، وتتركِ لي فقط حبي لها، ذلك الحب الذى لم يؤذيك فى أى شئ، لكنك بخلتِ على حتى بهذا الحق، الأن عليك فعل شئ واحد فقط، أن تري ماذا تريدين مني، وأن تأخذي كل ما يكفيك، تحملين كل حقوقك التي تبرأ معها ذمتي منكِ ومضي من هنا، وإن كنتِ تريدين البيت هو الأخر،لن أقول لكِ لا، سوف أتركه بكل ما فيه وأمضي أنا، أظن لهذا الحد ليس لديك عندي أى حق، أما أنا لي عندك الكثير من الحقوق التي سامحت فيها، ما عدا حق واحد لن أسامحك فيه هو حق "عشق" تركها ماضيا حيث غرفته، أخذ يجمع ملابسه وأشيائه وكل ما يخصه، أقتربت منها "حسنية" قائلة:

-فهمت الآن ما حدث، حذرتك كثيرا ألا تقتربي من تلك المنطقة بحياته، لأنك سوف تخسرين، لم تستجيبِ لأحد، سرت وراء صوت عقلك الذي أوقعك فيما أنتِ فيه الأن ،عشتِ معه سنوات كثيرة ، لكن للأسف لم تعرفيه، ولم تفهمي كيف هى روحه، تركتها قاصدة غرفة "عمر" وجدته يجمع ملابسه وقفت أمامه تمسك منه ما يجمعه قائلة:

-لا يا "عمر" لا تترك البيت، هذا بيتك وبيت أبيك، لمن سوف تتركني آذن، إن كان هناك من يجب أن يغادر، لتغادر هي، أغلق حقيبة ملابسه قائلا:

-لا تخشي علي يا دادة ، سوف أغادر من أجل أن أكون بخير، أنا لن أترك البيت، أنني أعطيها فرصة كي تري ماذا تريد من حقوق لها لدي؟! فرصة أعيد ترتيب أوراقي وألملم شتات نفسي، لا تخافي أنا لست بعيد عنكِ، كل يوم سوف أتحدث معك عبر الهاتف، بكت بشدة وهي تحتضنه قائلة:

-ليس لديها أية حقوق عندك، أنا أعرف كل شئ، أعطيت الكثير دون مقابل، لم تكن تحلم بك ولا بتلك الحياة التي أعطيتها إياها، أبقي لا تغادر، ضمها  إليه بشدة كمن يستريح قليلا داخل حضن دافئ يطمئن إليه قائلا:

-لا يا دادة لها حقوق أمام الله تأخذها، حتى لو لم تكن تستحقها، حتى ولو كانت على حسابي ، "عمر الراوي" لا يظلم أحد

 

 

 

                          "الفصل الثالث والأربعون"

 

                                 "يكفي هذا"

 

 

مضي أسبوعين و"عمر" يحاول أن يصل إلى "عشق" التى أغلقت هاتفها ،لم تعد يُجيب على أتصالاته الكثيرة، حاول بكافة الطرق أن يراها ويتحدث إليها، حصلت على إجازة من المستشفي كى لا يراها أو تراه، أمسك هاتفه يطلبها داعيا الله أن تجيبه ولو لمرة واحدة، يستطيع بها أن يخبرها أنه يموت دونها وأن الحياة لا معنى لها، سمعت صوت النغمة التى أختارتها له، أمسكت بالهاتف تضمه إلى صدرها، أشتاقت إليه، يقتلها حنينها، ممزقة بين ما تريده وما يفرضه عليها ضميرها، ماذا تفعل؟! تحبه وتموت شوقا اليه، كلما حاولت أن تستجيب له وترد على اتصاله، كلما عادت من جديد تسمع صوتها وما قالته لها أمام الجميع، فتبكي محتضنة نفسها بذراعيها قائلة:

-أرحمني يا "عمر" أعطني فرصة كى أُشفي من جُرحي منك، كان عليك أن تخبرني الحقيقة كى لا تضعني فى هذا الموقف، أخفيت علي خوفا من أن تفقدني، أعرف ذلك، لكن لم يكن من حقك أن تفعل ما فعلت وتتركني جاهلة لتلك الحقيقة ،عرفت أنها لا تستحقك، عرفت أنك شئ وهي شئ أخر غيرك، شعرت بما تحياه حينما رأيتها أمامي، يا رب أعطني الفرصة التى ألملم بها بعثرت نفسي، تعلم وحدك كم أحبه، تعلم الحيرة التى تتملكني، قف معي كما أنت دوما وأخبرني ماذا أفعل؟! أعلم أنه يتألم ، لذلك أطلب منك أن تحمل عنه أى ألم وتضعه بي بدلا منه، صدقني يا الله سوف أتحمله وأرحب به، لكنني لن أتحمل أن تصيبه وخزة ألم واحدة، جاءها صوت رسالة على هاتفها، مسحت دموعها، ترى ممن تكون وداخلها يدعو الله أن تكون منه، وجدت أسمه يسبق الرسالة، فتحتها بسرعة تقرأ ما كتبه لها قائلا:

-الله يغفر ويرحم عباده إن طلبوا منه المغفرة، الله يعلم ما لديك عندي، وإن كان ما لك هو الدنيا بأسرها، أخطأت حينما أخفيت عنك هذا الأمر، لكنني أخفيته لأنني خفت أن أفقدك وتتركيني من جديد، كنت كطفل فعل شئ خطأ ويخفيه عن أمه كى لا تتركه يتوه وسط حياة قاسية ،خالية من الرأفة والرحمة ، "عشق" يكفي هذا العذاب الذى أكل روحي وأنت بعيدة عني، لم أعد أعرف يومي من أمسي، الصباح ذاته لم يعد يمر بنافذتي، فقدت القدرة على الاستمرار دونك، يكفي عقابك لي وهو عدم وجودك بجواري، أنه أقسي وأكبر عقاب شعرت به في حياتي، تعاقبين تعاقبي نفسك من أجل من لا تستحق، ليتها تفهم ما تفعليه وما فعلته أنا قبلك معها، مخطئة لأنك تفعلين بي وبك كل هذا من أجل أنسانة كل ما تفهمه بتلك الحياة هو كيف تكون أنانية، "عشق" تعبت، تعبت وكرهت كل شئ بي لأنه كان سبب فى جرحك، سوف أنتظرك وأعلم أنك ستغفرين لي لأن لديك قلب أم ، سوف أنتظرك وأنا كلي يقين أن ما يربط بيننا لن ينقطع مهما حدث أنتهت من قراءة رسالته، تنزوي أكثر وتجهش فى بكاء مرير، أغلق "عمر" الحاسوب الخاص به بعد أن ترك رسالة

 "لعبد الحميد شاهين" يخبره بها أن يوقف أى تعامل مع مستشفى "الأيوبي" ويحضر له جميع الملفات القديمة التي تخص تعامل المصنع مع المستشفى،قام واقفا يمسك بحلته الملقاة أمامه على المقعد، تدخل "ندى" ووجهها حزين قائلة:

-هل لي دقيقة من وقتك، أبتسم لها رغما عنه، فهو يحبها بعيد عن أنها شقيقة "عليا" الصغري، لكنه أنسانيا يحبها، فقد تزوج أختها وهى طفلة عندها عشر سنوات فقط، رباها وأنفق على تعليمها الجامعي، وأحضرها معه فى مكتبه تتعلم كيف تكون الحياة؟! لم تشعر مرة معه أنها يتيمة، لم يترك لها فرصة تشعر أن هناك ما ينقصها، أشار لها بيده أن تعالي، أقتربت منه وحينما وقفت أمامه لم تستطع أن تتمالك نفسها ، أخفت وجهها بين كفيها تبكي،أخذها من ذراعيها يضمها وهو يمسح فوق رأسها فى حنان أبوي قائلا:

-أعرف ما تريدين التحدث به معي، أنت خارج ما يحدث بيني وبين "عليا" تعلمين أنك أبنتي تربيتِ ببيتي تحت عيني، مهما حدث لن أتركك ، هذا وعد مني أمام الله ،فهمتي ما قلت ،أنت أبنتي التي لم أنجبها، بيتي سوف يبقى هو بيتك ومكتبي هذا لا يستقيم الا بوجودك هنا، لا داعي لهذا البكاء،لا أريدك أن تشغلي بالك بأى شئ غير دراستك وعملك فقط، خرجت من حضنه تمسح عينيها قائلة:

-أريد فقط أن أعرف ماذا حدث كى تنفصلان؟! أعلم أن "عليا" لم تكن تهتم بك بالقدر الكافي وكنت تبقي هنا بالمكتب طيلة اليوم، لكن الحياة بينكما كانت تسير، تنهد "عمر" بقوة قائلا:

-لا يا "ندي" لم تكن الحياة تسير كما تعتقدين ويعتقد من حولنا، كنا ندعي كذباً ذلك، حتى مللنا من هذا الكذب، أنتهت قدرتي على التحمل، لم أستطع الإستمرار وتضليل نفسي أكثر من هذا، أريدك أن تعرفي شئ من أجل حياتك القادمة، الحياة ليست مجرد أربع جدران نخفي بهم حياتنا وعورة أحتياجنا وقُضي الأمر، لأنك ببساطة من الممكن أن تري قصور فخمة وليست أربع جدران مغلقة ونحن نعتقد أن من يحيون بها سعداء، وهي فى حقيقتها تحمل بين جدرانها كذب وتحايل ومرارة واقع يحاول من يتقاسمونه الإستمرار دون جدوى، الحياة يا "ندي" دفء وحب وإيثار وتضحية حتى ولو كنت سوف تحيين كل هذا  داخل كوخ صغير مع من تحبين، والآن هيا ابتسمي لا أريد أن أري دموعك مرة أخرى، سوف أرحل الآن ، أبتسمت له وهي تسير بجواره إلى خارج المكتب، أستقل"عمر" سيارته، كانت السماء تنذر بالمطر وبرودة شديدة تلقي بنفسها فوق القاهرة، أغلق زجاج نوافذ سيارته قاصد المرسي وعم "مسعود" ،الذى وجده يجلس بالمركب يشعل أمامه الكثير من الحطب، وقف ينظر إليه من بعيد وكأنه يلقي على أعتابه كل متاعبه، شعر عم مسعود" بوجوده من رائحة عطره الذي يسبقه، رفع رأسه إليه تسبقه أبتسامته وهو يشير له تعالى، هبط "عمر" السلم الحديدي حتى صعد المركب، جلس أمامه يستجدي الدفء من النار التى أمامه، تركه فترة من الوقت دون كلام، قدم إليه كوب شاى ساخن قائلا:

-حينما رأيتك منذ قليل ونظرت بعينيك ،علمت أن هناك شئ حدث بينك وبين "عشق" نظرتك مكسورة بها شئ تائه ،يبحث عنها حتى وهى بداخله، تحدث أخبرني ماذا حدث بينكما؟! ولم لم تأتي معك؟! أخذ يروي له كل ما حدث، أنتهي من حديثه وهو يعود إليه بكوب الشاى فارغ، أخذه منه قائلا:

-أستمع إلي يا "عمر" أنظر إلى هذا الشعر الأبيض الذي برأسي، هو ليس مجرد شعر فقط ، هو عمر وتجارب وخبرة، وناس كثيرة مرت بي وبحياتي، أستطعت أن أعرف حقيقة الأشياء من حولي، وحقيقة البشر قبل أى شئ، صدقني لن تستطيع الأبتعاد عنك أكثر من هذا ، لكل منا قدرة محدودة على تحمل غياب من يحب إن كان يحبه حقا، بعدها تخونه قوته ويرحل عنه غروره، يجري يبحث عنه من جديد فى كل مكان، يبقى مثل المجذوب الذي فقد عقله وهو يعرف أن مكانه الوحيد لدي من يحب، لن تقدر "عشق" على الصمود أكثر مما فعلت، وأنا أثق تمام الثقة أنها تحبك ، كحبك لها تماما، الوقت الذي مضى أعتبره فترة نقاهة لما بينكما، كي يستطيع كلاكما أن يقف على حقيقة مشاعره، ويعرف مقدار صدقها وقوتها، لن تقدر على الأبتعاد كثيرا، صورتها المنعكسة فى أضواء المركب وهي تقف بنفس المكان الذى كان يقف به "عمر" منذ قليل، جعل عينيه تهرب إلى مكانها، تنظر لترى هل وجودها حقيقة ؟! أم خُيل إليه من شدة شوقه إليها، وقف  يضحك ويبكي فى وقت واحد،وقف وقلبه يدق بعنف مرحباً بتلك الغائبة الحاضرة التي عادت لتوها، وقف يهدأ من نفسه وهو يفتح لها ذراعيه يشير إليها دون كلام أن أسرعي قد كادت أنفاسي أن تقف، جرت نحوه دون خوف من مياه النيل ولا من الصعود إلى المركب، جرت وهي لا تتذكر أي شئ سوى أنه أمامها، هكذا نحن تُمسح ذاكرتنا فجأة من كل مخاوفها وما علق بها ، حينما نري من أشتاقت النفس لقياهم، ألقت بنفسها بين ذراعيه، أطبق عليها يعتصرها بين ضلوعه، أمسك بها بكل قوته، كمن يريد أن يخفي أحد بداخله، أحتضنته  بشدة تهدأ شوقها له، أحتضنته وماتت يديها فوق ملابسه، ظل الأثنين هكذا، يريدان أن يشبع كلاهما جوعه من الأخر، ببطء شديد خرجت من بين يديه،أمسك وجهها يقبل كل جزء به قائلا:

-لو تعلمين ماذا فعلتِ بي الأن؟! لما تأخرتِ كل هذا، لو تعلمين أن لك ثواب أحياء روحي التى كادت أن تموت بغيابك ما ظللت بعيدة عني كل هذا، أخبرتك من قبل أنني دونك لا شئ ، لو فعلتيها ثانية حقا سوف أموت، عادت تضمه قائلة:

-لا أحد يعرف من مات مائة مرة فى بُعد الأخر يا "عمر"علمت أنني لن أستطيع أن أكمل دونك، علمت أنني طيلة هذا العمر لم أكن أحيا لأن بعدي عنك علمني أن ما كنت أحياه لم تكن حياة، وأن حياتي بدأت معك وبك دون غيرك، ضحك عم"مسعود" الذى نسوا وجوده تماما قائلا:

-ألم أخبرك أن من يحب يعود ولو بعد مائة عام؟!

 

 

                              

 

                         "الفصل الرابع والأربعون"

 

                                 "قرار"

يتوه منا الطريق وتثقل علينا الخطي، تتحول الرؤية إلى ضباب لا يشف عما خلفه، تتعثر الأفكار بعقولنا وتتشتت الأحاسيس بداخلنا ، فقط حينما نعجز عن أتخاذ القرار، ليس جبنا منا ،بقدر خوفنا وارتعاش أيدينا كلما هممنا أن نقطع كل السبل أمام نفوسنا التى توسوس لنا أن نقف دون أن نُكمل ما بدأناه.

 

مضى الليل وحالهم كما هو،غارقين داخل بعضهما، أحساس يلف الكون من حولهما، أن لا شئ هناك يستحق أن يتفرقا، كأن حبل سري واحد يربط بينهما، لم يشعروا بالوقت ولا بالساعات التى مرت، دفء غريب يجتاح خلاياهما، لا يريدان شئ من الكون سواه، بعث الفجر شعاعه يتسلل بين جفون "عمر" الذى نام مكانه وهو جالس، يضمها بين ذراعيه، فتح عينيه ينظر حوله، يستكشف أين هو؟! رأها تغفو كطفلة صغيرة هادئة، فوق ذراعه، أبتسم يمسح ملامحها برفق، تنفس وكأنه أول مرة يشعر بشهيقه، ظل يحدق بها بعض من الوقت، حتى فتحت عينيها، تجده أمامها يتطلع بها، عادت تغمض عينيها قائلة:

-تلك هى المرة الأولى التي أنام فيها وكل ما بي مطمئن،رغم أنني غفوت بمركب داخل النيل، علمت حقا أن الأمان لا نجده دوما بين الجدران، بل نجده فى حضرة من نحب ،حتى ولو كنا بمركب داخل النيل، قبل جبينها قائلاً:

-منذ صغري حينما رأيتك وأحببتك ولدي أمنية أريدك أن تحقيقها لي الأن، رفعت رأسها تنظر إليه مستفهمة بعينيها، جذبها حتى مقدمة المركب واقفا خلفها قائلا:

- كم تمنيت أن أري الشمس معك وهي تشرق قبل أن يراها غيرنا، نظرت معه باتجاه شروقها ، كانت أشعتها تولد من ألم مخاض طويل، جاءت دافئة ناعمة تسلم عليهما، أشارت لها قائلة:

-أُشهدك أنني أحب هذا الرجل ولن أحب سواه، لوح للشمس بيده قائلا:

-وأنا أيضا أشهدك أنها كُتب على أسمي قبل ميلادها، فصارت أبنتي وصديقتي وحبيبتي ورفيقة دربي الذى أدعوا الله أن يطول بنا ، ضحك عم "مسعود" من خلفهما قائلا:

-وأنا أُشهدك أيتها الشمس الطيبة ، أنني مت جوعا وأريد أن أتناول فطوري ، مثل كل يوم مبكرا، وضعت كفها فوق فمها تضحك، أستدار إليه "عمر" قائلا:

-أنا الأخر أريد أن أتناول فطوري من يدك دون غيرك، غمز له "مسعود" قائلا:

-تقصد أنك تريد أن تعاقبني على قطع حديثكما مع الشمس، بأن أقوم بأعداد الفطور، لا تخف كل شئ جاهز أنظر، أشار إلى منضدة خشبية صغيرة عليها أصناف من الطعام الشهي الساخن، الذى جعل "عشق" تقفز من مكانها إليه قائلة:

-رائحته وشكله يطلبان مني أن أتناوله دون رحمة، التف الجميع حول الطعام يتناولون فطورهم وسط جو من المرح والضحكات،أنتهوا من تناول طعامهم، جلس "عمر" يحتسى الشاى الذى أعده لهم عم "مسعود" وهو شارد فى مياه النيل هزته "عشق" برفق قائلة:

-فيما أنت شارد هكذا؟! هل يشغلك مستقبلك مع زوجتك؟! أبتسم بلوم قائلاً:

-بل يشغلني مستقبلي معك، لم يعد هناك شيء يشغل بالي غيرك، هي بالنسبة لي صفحة طويتها، حاولت ألا أظلمها لكن هي من ظلمت نفسها بما فعلته،لم تبقي علي يا "عشق" رغم ما فعلته معها، دعك من هذا الأمر فهو لا يهم برمته، أريد مقابلة أستاذ "يوسف مأمون" الأن يا "عشق" ضيقت عينيها باستغراب قائلة:

-لم يا "عمر" ؟! هل تريد منه شئ؟! أومأ برأسه دون كلام، فهمت أن هناك ما يريد قوله له دون غيره، وقفت تمد يدها إليه تجذبه، وقف معها قائلا:

-أدعوا الله أن تبقين دوما هكذا تجذبني كلما شعرت بضعفي، شدت على كفه ماضية معه، أنتهي الطريق بهما أمام بيت "مأمون" صعد سويا ، فتح لهما الخادم مرحب بهما، دقائق وجاء "يوسف "مرحب بهما وبعينيه سؤال قرأه "عمر" الذى هز له رأسه قائلا:

-نعم أستاذي علمت كل شئ كان معك حق فيما طلبته مني، نظرت إليه "عشق" وهي تضرب مقدمة رأسها قائلة:

-هل كنت تعرف أستاذ "يوسف" أن "عمر" متزوج؟! عاد بظهره للخلف قائلا:

-نعم كنت أعرف ، كما أنني أعرف أيضا أنه زواج دون حب، علمت كل شئ بطريقتي، لم أخبرك لأنني أردت منه أن يخبرك هو بنفسه كي لا يتدخل أحد بينكما، أطمئننت حينما علمت حقيقة ما يحياه، وقتها فقط تأكدت أن قلبه مرهون بك كما أخبرني، نظر إليها "عمر" نظرة فهمت منها ما يريد قوله، بادلته نظرته بنظرة حب وامتنان، أعتدل الأخير في جلسته كمن يريد أن يقول شئ هام قائلا:

-أريد أن أتحدث إليك فى أمر هام قليلا أستاذ "يوسف" ، شعر أن هناك خطب ما ولا يريد أن يتحدث به أمام "عشق"، نهض وهو يشير له بيده للخارج قائلا:

-حسنا تفضل معي بغرفة مكتبي، تركوا "عشق" تقلب فى الكتب الموضوعة أمامها فقد علمت أن "قسمت" ذهبت لزيارة أحد دور الأيتام، دخل "يوسف" لمكتبه يتبعه "عمر" الذى أغلق الباب خلفه، لم يجلس إلى مكتبه، بل جلس بجوار "عمر" قائلا:

-أشعر أن هناك شئ هام وخطير،لا تريد أن تعرفه "عشق"صمت "عمر" دقيقة، يرى من أين يبدأ قائلا:

-لم أرد التحدث أمامها ليس لشئ إلا لشئ واحد ،هو خوفي عليها،أريد أن أجعلها بعيدة عن أى صراعات أو خلافات، أنتبه له "يوسف" أكثر، جعله يستمر فى حديثه الذى أخذ أكثر من ساعة دون توقف، أنتهي "عمر" مما أراد قوله وأخذ رأي "يوسف" به، ران صمت تام بالمكان ، تنهد الأخير تنهيدة أنبأت أن هناك بالمكان من هو حي قائلا:

-تريد رأيي فى كيف تتصرف فى أمر أنت مقتنع به ؟! أم تبحث عن رأي يثنيك عما نويت القيام به ؟! هز "عمر" رأسه بالنفي قائلا:

-لن أعود من طريق بدأته مهما كلفني الأمر، خاصة إن كان طريق حق، منذ أن وجدت "عشق" وقد عاهدت الله الأ أدافع عن باطل مرة أخري كي يحفظها لي، يكفي من دافعت عنهم وكانوا مخطئين وكنت أعتقد أنها مهارة مني يجب أن أفتخر بها أمام الجميع، تلك المرة بالذات أريد أن أكمل مشواري كي أكفر عما فعلته قديما وأشعر أنني أستحقها، كل ما فى الأمر أنني محتار بين واجبي وصداقتي ب"خالد" وعلاقتي الطيبة بدكتور "عبد الرحمن " لذلك جئت إليك أطلب رأيك، وقف "يوسف" ذاهب إلى مكتبه يجلس خلفه قائلا:

-لو فكرت بتلك الطريقة يا "عمر" لن تفعل شئ ، صداقتك وعلاقاتك الشخصية شئ والحق والواجب شئ أخر، لا يوجد شريف يعرف ما عرفته ويقف يفكر ماذا يفعل؟! لأنه ببساطة ليست لديه خيارات ، هو خيار واحد وطريق واحد فقط أمامه وعليه أن يسلكه، وهو أن يفعل ما يرضي الله وضميره، "خالد" نفسه أظن أنه يشبهك لا يضع للأمور الشخصية وزن فى موضوع كهذا، أترك ما يربطك به وبوالده جانبا الآن ، ضع أمامك فقط تلك الجريمة البشعة التى يمقتها الله والقانون ، الصواب له وجه واحد فقط ، والطريق المستقيم يسير على خط واحد، خذ الخطوة ولا تخف، خذها وليكن بداخلك يقين أن الله لن يخذلك، لأنك تنهى عن باطل وتبحث عن حق، سوف أترك لك حرية الأختيار، وأن ترى من أي نقطة تبدأ، نهض "عمر" قائلا:

-حسنا وأنا أخترت، أتجه ناحية باب المكتب إلا أن صوت "يوسف" أوقفه قائلا:

-من يحب بُطهر، يفعل كل ما يجعله فى مصاف الملائكة، كي يليق الطالب بالمطلوب يا "راوي".

 

 

 

                          "الفصل الخامس والأربعون"

 

                                " لن أختارك"

 

هناك أشياء تباع بأبخس الأثمان، لكننا أبدا لا نستطيع شرائها ولو بماء العين، كل ما كان قابل للبيع والشراء ، فهو له ثمن مهما غلا وارتفع، وكل ما كان نفيس لا يقبل أن يُطرح فى سوق المزايدة مهما عرضنا من أجله ، هكذا بعض البشر نبيعهم دون مكسب، نبيعهم لأنهم قبلوا أن يُباعوا ويُشتروا، وهناك من لو وضعت الدنيا بأسرها مقابل لهم ، كانت لا شئ لنظرة من عيونهم.

 

 

عاد "عمر" إلى بيته، قاصد غرفة مكتبه، أشعل نور بسيط فوق مكتبه، كي لا يشعر بوجوده أحد، جلس يجمع الأوراق التي أتاه بها "عبد الحميد شاهين" تخص صفقات "مهاب" المشبوهة، فقد استطاع الرجل بعد بحث طويل فى أوراق التوكيل، أن يجد بعض العقود التى عليها توقيع "مهاب" بنفسه، شمر عن ساعديه، يقرأ كل ورقة، ومع كل سطر يقرأه يبتسم، فقد وجد الكثير مما يدين "مهاب" لا يعرف أحد عنه شئ ، وجد بخلاف صفقات اللبن الفاسد، صفقة أدوية منتهية الصلاحية ، قام باستيرادها مع "إسماعيل الشريف" من الخارج، وقاموا ببيعها لمستشفى "الأيوبي" دون أن يدري أحد عنها شئ، وأوهم الجميع أنها صفقة آتية من الخارج ، نظر "عمر" في الفراغ أمامه هامسا لنفسه:

-كم روح ماتت بسبب تلك الأدوية المسمومة؟! كم ساذج أوهمه أن القسم الخيري بالمستشفى يقوم بعلاج الناس بالمجان، وهو فى حقيقة الأمر يقتلهم لحسابه، كي يربح من الجهتين؟! من أين أتيت بكل هذا الجُرم يا "مهاب"؟! أبيك وأخيك ليسوا كذلك، حقا يلهم الله كل نفس فجورها وتقواها، ويتركنا نحن نختار، أي الجانبين نزكي، وقد أخترت أنت أن تزكي فجورك حتى أعمي قلبك ، كانت الأوراق جميعها منثورة أمامه فوق المكتب، ينتهي من ورقة، يأخذ الأخري، حتى فُتح الباب عليه، رفع عينيه، يرى من الطارق فى مثل هذا الوقت المتأخر، رآها هي تقف وقد أرتدت ملابس تكشف أكثر مما تستر، وكأنها بغرفة نومها الخاصة، عاد بعينيه مرة أخرى لما أمامه، دخلت حتى وقفت أمامه مالت عليه تحاول أن تستأثر به، دفعها بعيد عنه قائلا:

-ماذا تريدين يا "عليا"؟! ولم أنتِ هنا الأن؟! لا يجب أن تكونين هنا بتلك الملابس،هذه غرفة مكتب وليست إستراحة، من فضلك أذهبي لدي عمل يجب أن أنتهي منه، حاولت أن تضمه إليها قائلة:

-وأنا الأخري عمل من تلك الأعمال وأريدك الأن،رفع حاجب عينه فى إستغراب شديد قائلا:

-تريدين ماذا؟! هل أخبرك أحد من قبل أنك أشتريتني وكلما كنت بحاجة لرجل تأتين لي؟! خلعت ما كان عليها من ملابس قائلة في حركة استعراضية:

-أنت زوجي وهذا حقي، إن لم يكن برضاك سوف يكون دون إرادتك، صفعها على وجهها قائلا وهو يلملم ملابسها الساقطة على الأرض، يلقي بها فى وجهها قائلا:

-تلك هي لغة الحيوانات ، حتى بعض الحيوانات تستحي أن تفعل ما فعلته الأن ، لأن لديها كرامة، أفهمك جيدا أكثر من نفسك المريضة، تريدين أن تهزمي "عشق" ومن قبلها تهزميني أمام نفسي، تريدين أن أخونها معكِ، مهما فعلت لن يحدث ذلك وفري على نفسك كل هذا التعب والمجهود الذي تقومين به، ضربت المكتب أمامها قائلة فى جنون:

-أي خيانة التى تتحدث عنها؟! أنا زوجتك، ضرب كفا بكف ضاحكا مردفا:

-ليست كل الخيانات خيانة جسد، بعض الخيانات تكون خيانة مشاعر وهذا أقبح وأقسي، خيانة الجسد دقائق وتنتهي، أما خيانة المشاعر تبقى سكين يمزقنا، مؤكد لا تفهمين ما أقوله، لأن عقلك تضعيه دوما تحت قدميك،أنتهي الأمر وكما أخبرتك منذ فِعلتك أنك لم تبقى زوجتي، لأنني بيني وبين نفسي كرهتك، والكراهية فى حد ذاتها أنفصال حتى ولو كان أنفصال غير موثق، إن فعلت لك ما تريدين، لن أكون بذلك خُنت "عشق" فقط، بل سأكون خُنت نفسي من قبلها، وأنا لست كذلك، أشار لها ناحية الباب مردفا:

-الأن تفضلي من هنا، غدا سأحضر المأذون ليكون الإنفصال شرعيا، وتمارسين حياتك كما يحلوا لكِ، وقفت ترتدي ملابسها قائلة:

-حسنا لا أريدك ،أريد جميع حقوقي، فلتت منه ضحكة قائلا:

-أعلم ذلك ، حسنا أجمعي كل ما ترينه حقك وأخبرني به، وسوف أعطيه لك كاملا، سرقت نظرة إلى الأوراق الموضوعة فوق المكتب ، قرأت أسم "مهاب" وبعض الكلمات التي فهمت منها، أنها عقود باسمه، التفتت إلى "عمر" الذى كان يعطيها ظهره قائلة:

-أريد شيء آخر، طالما جعلتني أختار بمحض إرادتي، أريد تلك الفيلا أيضا، أغمض عينيه بشدة كمن كان ينتظر ضربة ،كان يعلم أنها سوف تأتي، أستدار ينظر إليها نظرة باهتة لا تعبر عن شئ، حينما نُسقط أحد من قلبنا، لا تكون له نظرة ذات معنى لدينا،يصير كل ما بنا لهم شئ باهت لا لون ولا طعم ولا مسمي له، أقترب من المكتب،فتح أحد أدراجه، أخرج منها ورقة ألقاها فى وجهها قائلا:

-أخبرتك أنني أعرفك أكثر من نفسك، وأعرف أنك تطمعين بها، لذلك كتبت لك عقد بيع بها، ليس لأنك تستحقينها، بل لأنني لن أحيا بمكان أستنشقت هوائه يوم ما، ولست أنا من يحتفظ بشئ يريده غيره، حتى ولو كنت أنتِ، جميع حقوقك سوف تحصلين عليها غدا أمام المأذون، والأن لا أريدك هنا ، لأن هواء الغرفة أختنق بوجودك، أمسكت بالعقد تاركة المكان مغادرة، ظل واقف مكانه بمنتصف الغرفة ، يحاول أن يصدق ما حدث، يتمنى لو كان حلم ، ليس حب لها ، بل ليشعر أن جميع من حوله ليسوا بهذا السوء ، كل يوم يسقط قناع هنا ويظهر وجه قبيح هناك، أخرج هاتفه ليتصل "بعشق" قائلا:

-لم يبقي لي أحد غيرك، الحياة صارت باردة موحشة ألا ركنك الذى أجد به الحياة، لا تتركيني بمفردي، أنت الحائط الثابت وسط زلزال هز كل شئ، ردت عليه قائلة:

-ماذا حدث يا "عمر" ؟! هل أنت بخير؟! روي لها كل ما حدث وما أن فرغ حتى بإرادته  قائلة:

-هل أنت نادم على تركك البيت لها؟! ضحك ضحكة مريرة قائلا:

-أنا نادم على شئ واحد فقط، هو أنني أضعت الكثير مني مع من لا يستحق، وأنني ظللت بعيد عنك طوال تلك السنين، أنتهت المكالمة ، وأنتهت الواقفة بالخارج تستمع  للحديث الدائر بينه وبين "عشق " من أخذ  قرار شيطاني أخذته لتوها  أنتقام منه هامسة:

- بيني وبينك الغد يا "عمر" سوف ترى ماذا سوف أفعل بك ؟! ولنرى إن كانت "عشقك" ستنجدك، أنا لا أترك من يدوس طرف ملابسي

 

 

 

 

                      "الفصل السادس والأربعون"

 

                            " شك في محله"

 

القلوب كلما كانت صادقة  رأت بنور ربها، شعرت بما سوف يكون، يرسل لها الله شئ ينبهها أن هناك من يحيك لها الشر، تخبره بصيرته أن الطريق به بعض الشوك، كلما كان ما نحمله نظيف بعيد عن الغل والنفاق، كلما زادت قناعتنا أن لا ضرر سوف يلم بنا ولو أجتمعت الأرض شرقها وغربها، فهناك رب يلقي بحمايته فوقنا.

 

جلس "عمر" أمام "عشق" يتناولون عشائهم بمكانهم الذين التقوا بهم أول مرة على النيل، لاحظت أنه يشرد منها كثيرا، تركت الطعام جانبا قائلة وهى تربت كفه:

-لم أشعر أنك لست هنا وأن هناك شئ يشغلك؟! تحدث يا "عمر" ألقي بما يرهقك أمامي، دعنا نتحدث بصوت عالي ، نري ماذا علينا أن نفعل فيما يشغلك، تنهد حتى شعرت بقلبه وثقل حمله قائلا:

-أشعر أن هناك من يدبر لي مكيدة، رأيت بعين "عليا" ليلة أمس نظرة غريبة، كلها حقد ووعيد ، أشعر أنها لن تنسي رد فعلي معها،خصوصا ما حدث بالأمس، فهذا الأمر أعلم أنه يمس كرامة الإنسان قبل قلبه، لكن كان عليها أن تحترم نفسها قبل أى شئ، وتنأى بها بعيد عن هذا الأمر، ضغطت أسنانها بشدة قائلة:

-هل أنت نادم على ما فعلت؟! رأي الغيرة بعينيها للمرة الأولى ، ضحك رغما عنه، لوت عنقها تنظر إليه باستغراب قائلة:

-ما الذي يجعلك تضحك؟! هل بكلامي ما يضحك؟! أمسك بكفها قائلا:

-لأول مرة أري بعينيك نظرة غيرة من أجلي، رأيت نظرة تخصني وحدي، لا يوجد أحد بها غيري، طيلة عمري لم أري نظرة كتلك، أشعرتني أن هناك من يعتبرني خاصته، من يحبني ويشتعل من أجلي، سحبت كفها من بين يده قائلة:

-نعم يا "عمر" أحبك وأغير من أجلك، هذا شعور طبيعي، لو لم نحب ما كان هذا الأحساس، فغر فم "عمر" فجأة وجحظت عينيه،وهو ينظر خلف ظهر "عشق" التى تعجبت قائلة:

-ما الذي حدث؟! إلى أى شئ تنظر هكذا؟! لم يجب ظل يتابع بعينيه ما يحدث، التفتت تنظر بنفس الإتجاه الذي ينظر إليه، ظلت دقائق هكذا، عادت إليه قائلة:

- هل تصدق ما أراه، ضحك قائلا:

-ألم أخبرك أن هناك شئ يدبر فى الخفاء؟! هل صدقتي ما أخبرتك به الأن، "عليا" بصحبة "مهاب" فى مكان كهذا، ماذا تعتقدين سبب وجودهم وليس هناك معرفة سابقة بينهما؟! هل صدفة مثلا؟! لا أعتقد تلك النظرة التي رأيتها منها أخبرتني أن هناك ما يدبر، لكنني لم أتخيل أن تصل بها الأمور لهذا الحد، "مهاب"؟! حسنا ليكن لكما ما أردتم وليجعل الله كيدكم فى نحركم، أمسكت "عشق" بحقيبتها واقفة تجذبه قائلة:

-هيا بنا نمشي من هنا، لا داعي لأن يرون، كي نترك لهم الحبل يحكمونه حول رقبتهم، هيا يا "عمر"، نهض مغادر، فقد كان رأيه من نفس رأيها، يريد إلا يجعلها تراه وتعلم أنه رأها معه، أوصل "عشق" لبيتها، قاصد بيته، دخل ينهي بعض الأعمال، عائد يجلس بالبهوا الكبير أمام التلفاز،عينيه به لكن عقله ليس معه، جاءت "حسنية" تجلس بجواره قائلة:

-أريد أن أطمئن عليك أمسك كفها يقبله قائلا:

صدقيني لم أكن بخير قبل الأن ، أما الأن فأنا بخير، رغم كل ما حدث ، رغم الوجوه القبيحة التي سقطت دفعة واحدة، أنا بخير لأنني علمت أن كل ما حولي كان زيف تحكمه المصلحة فقط وليس الحب، الزحام الذى كان حولي أنتهي ووضحت الرؤية، أنا الأن غني بمن بقوا معي من كل العواصف التى مررت بها، لأنني علمت أنهم يحبونني بصدق، الأن سوف أذهب إلى أنام قليلا ، فأنا متعب، مسحت على رأسه قائلة:

-إذهب واسترح، الغرفة الصغيرة نظيفة ، أعددتها لك، أعلم أنك لن تدخل الغرفة التي تنام بها "عليا" نهض قاصد غرفة ملحقة بغرفة مكتبه كي ينام كما أوهم "حسنية" أطفأ النور وجلس يراقب السماء فى صمت، شعر أنه سار طريق طويل دون أن يتوقف يلتقط أنفاسه، وحينما تعب وقرر أن يستريح، وجد نفسه قد أضاع الكثير من عمره وحياته دون أن يشعر،رأي نورغرفة المكتب يضاء فجأة أبتسم وظل مكانه حتى ذهب فى غفوة، أستيقظ مع أول شعاع للنور، نهض توضأ وصلي ، كان المأذون قد حضر في تمام الساعة العاشرة، جلس هو و"خالد" والبواب يشهدون على عقد الطلاق الذى أنتظره زمن طويل، أنتهت إجراءات الطلاق سريعا ككل شئ ليس له مكان بحياتنا ،غادر المأذون والبواب، ظل جالس مع "خالد" قائلا:

-غدا سوف أنتقل إلى الفيلا الجديدة التي أشتريتها من أجلي أنا و"عشق" سوف تعجبك أنها جميلة وهادئة تشبه صاحبتها، أبتسم له "خالد" قائلا:

- كم أنا فرح من أجلك وأجلها،الأن فقط أحسست أنك سوف تبدأ حياتك من جديد يبارك لكما الله فيما هو آت ويعوض كلا منكما الأخر بالخير، وضع "عمر" فنجان قهوته جانبا قائلا:

-أريد أن أخبرك بشئ نويت فعله يخص "مهاب" ومن أجل ما بيننا ، كان فرض علي أن أخبرك، حماية لصداقتنا وطول العشرة، وما سوف تقرره لن أراجعك فيه، ألتفت إليه "خالد" قائلا:

-تكلم أنا معك، نهض "عمر" يضع يده بجيب بنطاله قائلا:

-ليس هنا كى لا يسمعنا أحد، دعنا نذهب، أنا لا أريد البقاء هنا أكثر من ذلك ، خرجا سويا يسيرون بالحديقة ،ضرب "عمر" حجر صغير وجده أمامه قائلا:

-لقد عرفت أشياء كثيرة عن نشاط "مهاب" وأعماله الغير مشروعة، لم يقتصر الأمر عنده على مجرد ألبان فاسدة، وقف "خالد" ينظر إليه بقلق، زفر "عمر" بضيق يكمل له كل ما وقع تحت يده وما عرفه عنه وعن أعماله، وضع "خالد" وجهه بين كفيه ، يحاول أن يستوعب كل ما سمعه ، أقترب منه "عمر" يمسكه من ذراعيه قائلا:

-أشعر بك أعلم كل كل ما بداخلك الأن، لقد وضعت كل شئ أمامك، حتى قراري أخبرتك به وتركت لك حرية أن أكمل أو أقف، ليس من أجله ، لأن من هم مثله يستحقون الشنق بميدان عام، ولا يستحق أن يحمل أسم أبيك، أغمض" خالد" عينيه بشدة قائلا:

-أكمل ما نويت القيام به ، إن كنت مكانك لن أفعل شئ غير ما تنوي فعله، الحق حق، وهناك أبرياء دفعوا ثمن إجرام وجشع أخي، لن أتي أنا الأن وأكمل عليهم وأسلبهم حقهم وهم أموات لا يملكون القدرة كي يدافعوا عن أنفسهم، سوف أكون مخطأ ومذنب أمام الله إن طلبت منك أن تتراجع يا "عمر"، الحق لا يعرف صداقة أو فصال،ما بيننا خارج تلك الدائرة، لأن ما بيننا بني على أساس نظيف، أنا أحبك وأحب ما بيننا، لذلك أقولك لك أكمل طريقك،إن كنت أكرهك لوقفت لك، نظر "عمر" إليه يحتضن إياه قائلا:

-كنت أعلم أنك سوف تقف بجواري ، لأنك صاحب مبدأ ، غدا سوف أقوم بما نويت فعله، والله معنا ، هو وحده يعلم، أنني لا أريد سوى وجهه

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                         "الفصل السابع والأربعون"  

                

                              "بلاغ للنائب العام"

 

حينما نجد الطريق إلى لحق،نخطو به ولو على بلور مكسور، لا نلتفت إلي جروح أقدامنا،لا توقفنا الدماء الثائرة، نمضي بكل إصرار كي نصل لما نريد، وهو أن ننصر حق وندفع باطل، نتلذذ بألامنا، لأننا نعلم أنها تمهد لنا الطريق كي نصل، نتخدر ،ننسى كل شئ يقف أمامنا، إلا شئ واحد هو كيف نهزم خوفنا ونجعل الحق شعار لنا؟!

 

للمرة الأولى ذهب "عمر" إلى مكتبه فى تمام الساعة السابعة صباحا، قبل أن يذهب أحد من المحامين والموظفين، أغلق الباب خلفه وجلس يكتب دون توقف -بلاغ إلي النائب العام، أتقدم إلى سيادتكم بهذا البلاغ ، كي نلحق بأطفالنا، ثمرة كفاح عمر كل أب وأم، اليوم تتعرض هذه الثمرات الطيبة لمؤامرة من تجار بشر،فاقدين الضمير والشرف، سيادة النائب العام ، تلك صرخة مدوية أحاول أن أبعثها إليك من مكاني هذا، وأعلم أنك أب قبل أن تكون مسئول يحكم بين الناس بالحق، ليس أب لأبنائك فقط، بل أب لكل أطفال مصر، لأنك راع وكل مسئول عن رعيته، تلك هى رعاياك، هؤلاء هم أطفالك، سوف تقف يوم أمام الله وسوف يسألك عنهم، هناك جريمة تُرتكب كل يوم بين جدران مستشفى الأيوبي التخصصي، يقوم بها المدعو"مهاب عبد الرحمن الأيوبي"هناك بحضانة الأطفال وثلاجة الموتى، جريمة يخجل منها الضمير البشري ويبرأ منها الله، هذا بلاغي إليك، أشهد الله وأشهدك أني حاولت أن أنقذ ما تبقي من ضميري أولا ومن أطفال ليس لهم أي ذنب، غير أنهم حلموا بأن يجدو لهم مكان يحيون به فوق تلك الأرض، لن أسمي لسيادتكم تلك الجرائم التى ترتكب، بل سأترك لسيادتكم الأمر برمته، تبحثون وراءه وتقفون على الحقيقة بأنفسكم وأنا على أتم أستعداد للتحقيق معي بكل كلمة كتبتها وبعثتها لك، حينما يصلك بلاغي هذا سوف أنتظر رد منكم، كي أحضر ومعي جميع المستندات التى تثبت ما كتبته ونطقت به.

دون استأذن دخل "مهاب" فجأة ، جلس أمام "عمر" واضعا ساقا فوق ساق قائلا:

-جئت إليك كي أوقع معك إتفاق،رفع الأخير حاجب عينيه ينظر إليه نظرة أحتقار قائلا:

-أولا من سمح لك بالدخول هنا؟! أظن أن هذا آخر مكان من الممكن أن يرحب بوجودك، ثانيا من أخبرك أنني أُوقع أتفاق مع من هم مثلك؟! يد "عمر الراوي" لا تُضع بيد أمثالك، ضحك "مهاب" ضحكة غيظ قائلا:

-صدقني ولا أنا أيضا أحب أن أضع يدي بيدك، الأيدي النظيفة لا تروقني، دع عنك هذا، لتترك يدك كما هي، وأنا أيضا أترك يدي عندي، أسمع يا "راوي" لم أحضر الأن حب فيك، لأنك أكثر شخص أبغضه على تلك الأرض، جئت اليوم فقد من أجل أن أوقع معك أتفاق، إن وافقت عليه سوف تكون أنت الرابح، وإن لم توافق لن يخسر أحد غيرك، لكن قبل أن أتحدث أريد منك شئ هام، أن تترك ضميرك جانبا، وأن تضع شرفك بهذا الدرج الواقع يمينك، خرج من جيبه نفس العقود الموجودة مع "عمر" والتى حصل عليها مؤخرا من المصنع وتدين "مهاب"  وضعها أمامه قائلا:

-أظن أنك تعرف ما هي تلك العقود وما تنوي فعله بها؟! أنا سوف أقصر عليك الطريق،بدلا من أن ترسلها إلى أبي دون مقابل سوى التصفيق لك، الذي لا يثمن ولا يغني من جوع، ما رأيك لو أخبرتني كم تريد ثمن لهم ؟! ومهما كان المبلغ الذي سوف تطلبه لن أرفضه لك، هذه الأوراق معي،ملك يميني، لا تستغرب كيف حصلت عليها، لكن يكفي أنني لم أشأ لك الخسارة وجئت أدفع لك ثمنها، شخص غيري كان مزقها وانتهي الأمر، ظل "عمر" صامت ينظر إليه نظرة جعلت "مهاب" يتساءل ما الذي تحويه تلك النظرة،أشعل سيجارة ينتظر رد"عمر" الذي عاد بظهره للخلف قائلا:

-حسنا إن كان بيدك أن تفعل ما قولت، وتتخلص من هذا الورق الذى أعلم جيدا كيف حصلت عليها؟!وممن حصلت عليها؟! ما الذي جاء بك هنا الأن؟! ولم تعرض علي هذا العرض الثمين الذى سيجعلك تلقي بأموالك فى الأرض؟! طيبة زائدة عن الحد هبطت عليك فجأة من السماء؟! أم غباء يتحكم بك دون أن تدري؟! فرك "مهاب" يده قائلا:

-لا هذا ولا ذاك، السبب بعيد عن كل ما خمنته، لكن دعني أخبرك أنا به دون أن ترهق نفسك فى البحث عنه، مال بجسده فوق المكتب ينظر بعين "عمر" مردفا:

-السبب أنني أريد أن أري بعينيك نظرة توسل لي، أريد أن أري حسرتك أنك خسرت كل ما رتبت له وعانيت من أجله، هل عرفت الأن لم جئت إليك؟! هز "عمر" رأسه مشيرا إليه بأصبعه قائلا:

-أقترب قليلا فقد كى أخبرك شئ، لم يُخلق بعد من يجعل"الراوي" يتوسل إليه، ويوم أن تري الحسرة بعيني أعلم أنها نهاية الكون، أنت واهم فى كل ما أرهقت نفسك به الأن تعلم لماذا؟! لأنك غبي أنت ومن أعطتك تلك الأوراق من خلفي، لأنني قرأت ما كانت تنوي فعله، وتركت لها الحبل كي تشنق به نفسها وأنت معها، تركت لها تلك الأوراق التى لا فائدة منها وأخفيت الأوراق التى سوف أذهب بها اليوم إلى النائب العام، جحظت عيني "مهاب" حينما سمع أسم النائب العام، ضحك له "عمر" مردفا:

-ما رأيك فى مفاجأتي أنا لك؟! تعلم أن لا تغتر بذكائك، لأن هناك دوما من هو أذكي منك، والأن لا أريد رؤيتك هنا، تفضل ولتترك الباب مفتوح خلفك، كى يخرج هذا الهواء الفاسد الذي خلفته هنا، هب "مهاب" واقفا كمن لدغه عقرب قاصد الباب، أوقفه "عمر" بصوت مرتفع جعل من بالخارج يسمعه  قائلا:

-"مهاب" نسيت أن أخبرك شئ، أعلم أن لا أحد قد أخبرك به من قبل، لأنك لو كنت تعرفه ما كنت وصلت لما أنت عليه الأن، عليك أن تعرف أن الشرف واحد صحيح لا يقبل القسمة على أى شئ ولا حتى على نفسه، وشرف "عمر الراوي" ليس له ثمن، لأنه غير قابل للبيع

 

 

    

 

                          "الفصل الثامن والأربعون"

    

                                 "لا تتراجع"   

 

 

الحق غيور لا يحب له شريك وإن وجد الحق يتلاشى بجواره أى شئ مهما كان، لكن هل إذا وضع الحق ومن نحب فى كفة واحدة، أيهما سوف ينتصر؟!ومن سنختار ؟!هل سنخضع  لما يربطنا بمن نحب ونغمض أعيننا مجبرين عن رؤية الحق فى سبيل أن ننجي من قطعنا على أنفسنا عهدا أن نبقى لهم؟! الحق غريب دوما يحتاج قبل أن نعترف به أن نمتلك قوة تحميه، وتجعلنا نصل به إلى بر الأمان.

 

وقف "عمر" أمام مكتب النائب العام ، ينتظر السماح له بالدخول، يدق هاتفه ليزفر فى ضيق شديد قائلا وهو يخرجه من جيبه:

-من الذى يتحدث الآن ؟! أريد أن أكون صافي الذهن تمام، يفتح الهاتف يجيب قائلا:

-صباح الخير، يسمع صوت ضحكة ليست غريبة على أذنيه وصوت ساخر قائلا:

-هل وصلت إلى مكتب النائب العام أيها المحامي الفذ؟! أم تراك تجلس تنتظر دورك وأنت تردد ماذا ستقول؟! لكن لا تتعجل الدخول، معي أحد يريد أن يلقي عليك تحية الصباح، بتعجب شديد وقلق واضح يرد عليه قائلا:

- "مهاب" ماذا تريد الآن ؟! ومن هذا الذي يريد التحدث إلي؟! لم يكن تلك المرة صوته هو المجيب عليه، جاءه صوت "عشق" قائلة:

-"عمر" لا تخشي علي شئ ، لا تستمع لهذا القذر، أمضي فى طريقك، أكمل ما بدأناه سويا، من أجلي حتى ولو صرت فى عداد الموتى، لا تقف ولا تجعل خطواتك ترتجف، يكفي أنني فخورة برجل أحببته حتى النخاع، قبل أن يناديها ، عاد صوت "مهاب" مرة أخرى قائلا:

-أمامك خيار واحد ليس له ثاني، أن تتراجع عن تقديم البلاغ الذى تنوي تقديمه، وتعطيني كل ما لديك يخصني وأن تنسى كل ما عرفته وكأنك فاقد للذاكرة،         

سوف أنتظر قرارك الآن، وبعد ذلك أنسي "عشق" تماما لأنك سوف تذهب إلى المقابر لزيارتها، أغلق الهاتف دون أن ينتظر منه رد، ظل "عمر" ماسك هاتفه وعينيه زائغة وأنفاسه تكاد أن تقف، لا يعرف ماذا يفعل؟! هل ما سمعه حقيقة أم خيل إليه؟! جلس وهو ممسك الأوراق في يد ، وباليد الأخري يضغط فوق قلبه الذي كاد أن يقف، أغمض عينيه هامسا:

-يا الله ماذا أفعل؟! وحدك القادر أن تخرجها وتخرجني من هذا الموقف، أحميها فى كنفك لا تجعل سوء يمسها، مرت لحظات وهو صامت، فجأة ترك المكان ، ركب سيارته وأنطلق بسرعة، وصل إلى بيت "يوسف مأمون" لم يجد أمامه سواه فى تلك اللحظات، حينما رأه "مأمون" علم أن هناك شئ مخيف حدث، ملامحه العابثة، عينيه الشاردة، لم يرحب به ، لم يدعوه للقهوة، أقترب منه يمسكه بقوة من ذراعيه قائلا:

-هل حدث شئ  "لعشق"؟! تحدث يا "عمر"ما الذى جعل الدم يهرب منك هكذا؟! جلس على أقرب مقعد قابله، فك ربطة عنقه قائلا:

-لم أجد أمامي غيرك، كي تخبرني ماذا أفعل؟ جئت إليك بكل ضعفي وحيرتي التى أضعها أمامك الآن ، من أجل أن تساعدني في أخذ قراري، جلس "يوسف" أمامه قائلا:

-تحدث ، روي له كل ما حدث، تنهد بقوة قائلا:

- الفساد لن يتركنا، طالما من هم مثل "مهاب" يحيون بيننا، وطالما هناك يد مرتعشة ومن يخافون فى أن يكملوا طريق بدأوه، لا أستطيع أن أقول لك أترك "عشق" ولا أستطيع أن أجبرك أن تكمل فى طريق أنت وحدك تعلم أنه من الممكن أن يجعلك تضحي بمن تحب، لكنني سوف أقول لك شئ أخر، أفعل ما يجعلك مرفوع الرأس دوما وما يليق "بعشق"، إن كنت تحبها حقا وتعلم أنها شئ ثمين مهره غالي، عليك أن تقرر وحدك ماذا تفعل،نظر "عمر" إليه دون كلام أو رد ،تركه ماضيا مرة أخرى دون أن يخبره ماذا سوف يفعل؟! ذهب "يوسف" يجلس خلف مكتبه، أمسك بأوراق بيضاء كثيرة وقلمه الحبر، أخذ يكتب وينفعل مع الورق، دخلت "قسمت" قائلة:

-ماذا تفعل يا "يوسف"؟! ومن الذى كان هنا؟! رفع رأسه إليها قائلا:

-أجلسي معي أريد أن أشعر بالدفء فى وجودك، أجلسي  فالأمان لا نشعر به ألا مع من نحب ، أكتب روايتي الجديدة ، فمنذ سنوات لم أكتب شيء ، أنتظرت  كثيرا من أجل أن أجد موضوع يحرك قلمي ومن قبله مشاعري، اليوم فقط جاء البشير بقصة حب غريبة ، قلما نجدها فى هذا الزمن ، أما من كان هنا؟ سوف أحكي لكِ كل شئ، وضعت رأسها فوق كفها قائلة:

-أخبرني أولا ما هو أسم الرواية الجديدة؟! أمسك بالقلم يدق به الورق الموضوع أمامه قائلا:

-سوف أخبرك به حينما تنتهي تلك القصة ، من الممكن أن تنتهي غد أو بعد غد، المهم أنه ما يزال هناك أمل رغم كل ما نحياه ،هناك من يملكون قلوب من ذهب لا تقدر بثمن،اليوم علمت أن علي أن أكتب وأكتب دون توقف،فهناك من يضحي بنفسه من أجل مبدأ، كيف لي أن أجلس أشاهد دون صوت ؟!ومن الممكن أن أجعل قلمي سلاح هو الأخر يقف فى وجه كل فاسد.

 

 

 

                            "الفصل التاسع والأربعون"

 

                                "لست للشراء"

 

لا تيأس من هداية إنسان، حاول دوما أن تأخذ بيد عاصي، تخبره أن باب التوبة مفتوح وأن الله يحب التائبين، مهما كان سوء من أمامك ،تذكر أن بداخله قلب به شئ من الخير،ولو شعاع نور صغير، تمسك به وسر خلفه، لا تتركه لشيطانه، حتما سوف تلين قسوته، سوف ترفع الغمامة عن عينيه، إن كسبت وأخذته من طريق الخير فقد كسبت، وإن لم تستطيع يكفيك أنك حاولت.

 

 

 

جلس "مهاب" على مقربة من "عشق" التى جلست بأحد الأركانؤ، تنظر حولها تحاول أن تعرف أين هي؟! تستكشف المكان تبحث عن أى مخرج يخرجها مما هي حبيسة جدرانه، أقترب منها "سيد" يقدم لها كوب من الماء، رمته بنظرة أحتقار قائلة :

-أبتعد عني، لا أريد منك شئ، أُفضل أن أموت عطشا، على أن أشرب من يد ملوثة بالدماء كيدك، نظر إلى "مهاب" يسأله بعينيه ماذا أفعل؟! أشار له برأسه أن أبتعد عنها، رفع قدميه من على الأرض ،وضعها على مقعد أمامه قائلا:

- جلبتِ لنفسك ومن معك المتاعب، لولا لم تتدخلي فيما لا يعنيك ما حدث لك ما أنت به الآن، صدقيني ما فعلتيه لن يجعل منك بطلة قومية ، بل من الممكن أن يجعل منك جثة هامدة تأكلها الكلاب، كل هذا لا يهم، ما يهمني الأن أن يتراجع البطل الهمام عن بلاغه للنائب العام، فرصة كي نرى كم يحبك؟ وهل سيختارك أم سوف يفضل شعارات جوفاء ويضحي بكِ؟! ضحكت "عشق" قائلة:

-ومن قال لك أنه سوف يضحي بي أو بشئ من مبادئه؟! إن قتلتني سوف أكون فخورة لأنني أحببت حقا رجل ، لم يترك ما هو مؤمن به ولم يتنازل عن شرفه من أجلي، لأنني إن فعل هذا وقتها أنا التى سوف تتركه وللأبد، الفرق بينك وبين "عمر" تماما كالفرق بين العمى والبصر، أنت أعمي لأن يديك تلوثت بالدماء ، من يختار الدم يظل مطارد بلعنته إلى يوم الدين، أرح نفسك من كل هذا الهراء، لأنني أثق به وأعلم ما هو سيكون تصرفه ، لن يتراجع يا "مهاب" وسوف أخرج سالمة من هنا، كي أراك وأنت فى القفص ، تتحاكم لأكثر من تهمة وليست تهمة واحدة، لو كان بيدي لحاكمتك بتهمة جديدة ليس لها عقاب بالقانون ، وهى تهمة موت الضمير، دفع المقعد الذى كان يضع فوقه قدميه ، واقفا وقد أحمر وجهه غضبا قائلا:

- لو كان بيدي لقطعت لسانك الذى دوما ما يوبخني، ويراني لا شئ، علينا أن ننهي تلك المهاترات السخيفة ، أخبريني بكم ترتضين وتنسي ما رأيته تمام، وتتركين المستشفى وترحلين؟! ضربت كفا بكف قائلة باستغراب:

- كل ما قلته لم يترك بك أثر، كل ما حدث لم يهز جفنك؟! أنا لست للشراء ولو قدمت لي كنوز الدنيا أجمع، وإن كتب لي الله عمر، سوف أقف فى المحكمة أشهد ضدك، لن أتراجع مهما فعلت بي ،عض شفتيه بغيظ شديد قائلا:

-حسنا أخترتي كيف تكون نهايتك، لن تتركين هذا المكان وأنت حية،ولا أريد سماع صوتك حتى أنتهي منكِ، نادي "سيد" بصوت كالرعد قائلاً:

-أسمع لا أريد أن تغمض عينيك عنها، لا تقدم لها ماء ولا طعام، مهما فعلت لا تعرها أهتماما، فهمت ما طلبته أيها الأبله؟! رفع كفه إلى رأسه يبلغه أن فهم ما طلبه منه قائلا:

-فهمت ولك ما تريد، ترك المكان وخرج ،علمت أنه غادر حينما سمعت صوت سيارته، تنهدت قائلة فى صمت:

-يا الله كن بجوار "عمر"، أنت تعلم ماذا يفعل ، وما يفعله يرضيك ، كن بجواره ومعه، نظرت إلى "سيد" الذى وجدته ينظر إليها وبنظرته الكثير من الكلمات، أبتسمت  قائلة:

-أظن أن "عمر" أخبرني من قبل أنك أبن دادة "حسنية"، شعرت بحنين غريب يجتاح وجهه ،وكأنه تذكر أمه ، شعرت أنها من الممكن أن تؤثر عليه وتكسبه فى صفها، إن عرفت كيف تكسبه؟! لكل إنسان مفتاح مهما بدي غليظ أو يتحكم به شره، ليس هناك إنسان خير للنهاية ،وليس هناك من هو شرير للنهاية، بداخل كل إنسان بقعة ضوء مهما كانت ضعيفة ،أشارت له برأسها مردفة:

-تعالي أجلس أمامي، أقترب منها وكأنه وجد من يطمئن له وسط هذا الضباب الكثيف، جلس صامت ، شعرت أن أسم أمه فعل به شئ لم يستطع كل ما حدث أن يفعله، وضعت يدها تحت ذقنها قائلة:

-هل تشتاق إلى أمك؟! أختنق بالبكاء قائلا:

-أشتقت إليها كثيرا، كم أتمني لو سامحتني ورأيتها ، أحتاج أن تضمني وتخبرني أنها قد سامحتني كي أستطيع أن أحيا، أخبرك سر، هزت رأسها فرحة بأنها جعلته يتحدث إليها،عاد مردفا:

- كل ما وصلت إليه ، وما فعلته بنفسي بسبب أنني أشعر أنها غاضبة علي ، غضبها جعلني أرى العالم كله بلون واحد ، لو يعد يهمني أن أكون شخص محترم أو شخص خير، كل الأمور صارت لدي سواء ،لو كانت سامحتني، لو شعرت أنها فاتحة لي بابها مرة أخرى ، لكنت هرولت إليها أقبل قدميها، أمسح ذنوبي فوق عتباتها، كنت وجدت أمل أتمسك به وأعود من هذا الطريق الذي سرت به ، بدت على ملامح "عشق" علامات الأسي من أجله قائلة:

-بيدك أن تغير كل هذا ، بيدك أن تمحو ذنوبك وتستغفر ربك وتجعلها تسامحك ولا تتذكر شئ مما فعلته، أختر لنفسك طريق الخير،حتما سيقف الله بجوارك ويجعلها تنسى كل ماضيك، نظر إليها باهتمام قائلا:

-كيف يحدث هذا؟!نظرت حولها تريد أن تطمئن أن "مهاب" لم يعد بعد مردفة:

-أن تتوب وتفعل ما يجعلك فخور بنفسك أمامها، أثبت لها وللجميع أنك لست بهذا السوء، وأن ما بداخلك ما يزال حي يملؤه الخير، تعال معي إلى النائب العام، أخبره بكل شئ، وأنا سوف أشهد فى صفك ، وأخبره أنك من حررتني من خطف "مهاب" لي، و"عمر" هو الأخر لن يتركك، سوف يدافع عنك، صدقني تلك هى الطريقة الوحيدة التي تكفر بها عن كل ما مر بحياتك وغير راضي عنه، شرد قليلا عائد وعلى وجهه أبتسامة قائلا:

- حتى ولو لم تشهدين فى صفي، ولم يدافع عني "عمر"، حتى ولو عوقبت وحكم على، صدقيني لن أحزن، ستكون فرصة لي أُطهر بها نفسي ،أريد أن أتوب والله شاهد علي، لذلك أنا على أستعداد لفعل أى شئ، هيا بنا من هنا ، نهضت معه ، أتجه ناحية الباب ، فتحه كي يخرج بصحبتها قبل أن يعود "مهاب" الذى وجده أمامه يصفعه على وجهه قائلا:

-تريد أن تتوب، حسنا سوف أجعلك تذهب إلي الأخرة كى تتوب هناك، رفع مسدس كان فى يده صوبه ناحية رأس "سيد" ، دفعته "عشق" بعيد عنه، أختل توازنه وسقط أرضا ، سقط من يده المسدس، لكن قبل أن يسقط خرجت منه رصاصة غبية لم تعرف طريقها إلى قلبه، بل أستقرت بقدم "سيد" الذى سقط أرضا وسط صرخة ألم مدوية، نظرت "عشق" إليه فى حالة ذعر قائلة وهى تهرول إليه:

- "سيد" ماذا حدث لك؟! رأت الدماء تتدفق بغزارة، تغرق الأرض حوله، أمسكت بقدميه قائلة:

-لقد أستقرت الرصاصة بقدمك، أبقي  كما أنت لاتتحرك، قامت بتمزيق بنطاله، أخذت منه قطعة قماش ربطت بها الجرح بأحكام ، كي توقف النزيف ناظرة إلى"مهاب" صارخة فيه:

-أفعل شئ ،سوف يموت من النزيف،هل أصبحت لا تستطيع العيش دون دم ، أقترب منها كالمجنون ممسك بها من شعرها قائلا :

-أصمتي لا أريد سماع صوتك، كل ما حدث بسببك أنت ، لن أفعل شئ ، يموت ليكن ذلك جزاء كل من يغدر بي، دفعته بعيد عنها قائلة:

-سوف أجعلك تدفع ثمن كل ما فعلته، لا تنسي حسابك أصبح ثقيل،لن يمحوه إلا رؤيتي لك خلف القضبان، يسبق أسمك أسم مجرم.

 

 

               

                              "الفصل الخمسون"

 

                                  "لا تخف"

 

وقت شدتنا نحاول جاهدين أن نخفي ضعفنا،أن نغلق عليه ضلوعنا، كي لا يراه من حولنا وگأنهم يستمدون قوتهم منا، فلا يجب أن نريهم ما نحن عليه، نمضي وجروحنا تضربنا دون رحمة ونحن نبتسم مدعين أن لا شئ يؤرق أرواحنا، كل ما نفعله أننا نختبئ بمن نحب، دون أن نخبرهم أننا نحتاجهم.

 

شعر "خالد" أن هناك شئ ألم "بعمر" فهو لم يتحدث إليه منذ يومين ، حتي "عشق" لأول مرة فى حياتها تتخلف عن حضور عملية ،وتغيب عن المستشفى، حاول أن يتجاهل أحساسه، طلب من "نهال" أن تطمئن على "عشق"، قامت بالأتصال بها لكن هاتفها كان خارج نطاق الخدمة، نظرت إلى "خالد" قائلة:

-هل لديك نفس أحساسي ؟! أم أني أبالغ؟! ضيق عينيه ومط شفتيه قائلا:

-نعم لدي نفس إحساسك، الذي يؤكد لي أن غياب "عشق" وراءه شئ غير مريح، وتأكد هذا الإحساس الآن ، منذ متى وهاتفها خارج نطاق الخدمة، أمسكت "نهال" بذراعه تهزه بتوتر قائلة:

-تحدث إلى "عمر" مؤكد عنده خبر عنها يطمئننا، أمسك بهاتفه يحدث "عمر" الذى أجابه قائلا:

- "خالد" أين أنت؟! بدون إرادة منه هب واقفا ، فصوت "عمر" ينبأ أن هناك خطب ما قائلا:

-ماذا حدث ؟! وأين أنت ؟! وأين "عشق"؟! صمت يستمع إليه، ومع كل لحظة تمر تتسع عيني "خالد" وكأنه يري فيلم تسجيلي أمامه، فأخذت تجذبه "نهال" قائلة:

-ماذا هناك يا "خالد" ؟أخبرني ماذا يقول لك "عمر"؟! أشار لها بيده أن أهدئ، أنتهت المكالمة و"خالد" يهم بالمغادرة قائلا:

-أين أنت الآن؟! أنا فى الطريق إليك، تشبثت به "نهال" كطفلة صغيرة وهى تكاد تبكي قائلة:

-هناك شئ لا تريدني أن أعرفه ، تعابير وجهك وصوتك يقولان أن "عشق" و"عمر" فى ورطة، ماذا حدث أخبرني؟! تنهد "خالد" بغيظ كمن يريد أن يأخذ كل الهواء حوله، أقترب منها يمسكها من ذراعيها قائلا:

- نحن فى موقف يجب علينا أن نكون فى كامل هدوئنا ، "مهاب" أختطف "عشق"ولا نعرف أين هي؟! جحظت عينيها حينما سمعت ما قاله كادت أن تصرخ، لولا أن وضع كفه فوق فمها مردفا:

-هل هذا ما أتفقنا عليه؟! لا أريد أن يعرف أحد ما أخبرتك به، سوف أذهب الأن لأرى "عمر" ونرى ماذا يمكننا أن نفعل؟! تركها ماضيا مسرعا فى طريقه، وصل أمام مكتب النائب العام، وجد "عمر" يجلس فى سيارته ينتظره، رأه وهو مقبل عليه، فتح له باب السيارة  يجلس بجواره قائلا:

-ماذا تنوي فعله الأن؟! هل ستكمل وتدخل إلى النائب العام؟! أم أنك سوف تتراجع من أجل "عشق"؟! أبتسم "عمر" أبتسامة باهتة قائلا:

-من أجلها سوف أُكمل ما بدأت ، لن أتراجع لأنني أعلم أنني سأراها بخير ، ويجب أن أكون على قدر المسؤولية، لأنها سوف تسألني ماذا فعلت؟! بربك  أخبرني أنت ماذا عساي أن أفعل ؟! هل أخيب ظنها بي ؟! وأشعرها أنني لا أستحق حبها؟! هز "خالد" رأسه قائلا:

-كنت أثق أنك لن تتراجع، لا تخاف على "عشق" ، تقريبا أنا أعرف أين هي؟! نظر إليه "عمر" باهتمام سائل أياه بعينيه ، نظر "خالد " إلى الطريق مردفا:

-أظن أنه أخفاها فى بيت أمي القديم، يوجد بالجزيرة بعيد عن العمران، على الجهة الأخرى من النيل، كنا نذهب إليه معها دوما فى الإجازات،منذ رحيلها لم أذهب إليه ولا حتى أبي، "مهاب" الوحيد الذي يحتفظ بمفاتيحه ، يذهب هناك دوما، يقضي سهراته مع أصدقائه، مؤكد "عشق" هناك، هيا الأن عليك أن تنجز ما جئت من أجله، وبعدها سوف أصحبك إلى البيت، هم "عمر" أن يغادر ،فتح باب السيارة وقبل أن تطأ قدميه الأرض عاد ينظر إلى "خالد" قائلا:

-للمرة المليون أشكر الله أن رزقني أخ وصديق مثلك، لا أريد أن يؤثر ما سأفعله على ما بيننا يا "خالد" ، أبتسم له وهو يشير له برأسه أن أذهب، تركه "عمر" يسير بخطى ثابتة باتجاه مكتب النائب العام، سمح له بالدخول، دخل يصافحه ،جلس أمامه يروي له كيف أن "مهاب" يترأس عصابة دولية لسرقة الأعضاء البشرية، وأن تلك الجريمة تقع داخل ثلاجة الموتى بالمستشفى دون علم أحد، يجلب الألبان والأدوية الفاسدة التى تؤدي بحياة من يتناولها ، وبعد حدوث الوفاة يقوم بمساومة أهل المتوفي ، يدفع لهم بعض المبالغ المادية ،واهم إياهم أن بعض أعضاء المتوفى الضرورية سوف تذهب للخير، لإنقاذ مريض مثله وهو فى الحقيقة يقوم بسرقة تلك الأعضاء وبيعها لرجال الأعمال الكبار وبعض الأجانب، يضرب عصفورين بحجر، يتاجر فى كل فاسد ويحصل عليه بأسعار زهيدة، وحينما تحدث الوفاة يتاجر أيضا بالبشر،لا يضيع وقته دون مقابل، أستمع إليه النائب العام حتى النهاية ، حصل منه على جميع الأوراق التي تدين "مهاب" ومعه بعض الأسماء الكبيرة المعروفة بالمجتمع، وعد "عمر" أنه سوف يفتح تحقيق سريع فى هذا الموضوع، وصل إلى الباب، يتوقف حينما يسمع صوت النائب العام يناديه قائلا:

- سيد "عمر" أحييك على شجاعتك ونبل أخلاقك، شخص أخر فى نفس موقفك كان تراجع ، خاصة أن خطيبته تحت يد هذا المجرم، لكن لا تخف سوف أكون بجوارك دائما، رفضت أن تخبرني بالمكان المحتجزة به ، لكن لا يهم  أطمئن سوف تكون بخير، الشرفاء لا ينتهون.

 

 

 

                         "الفصل الواحد والخمسون"

 

                              " فخورة بك"

 

قلما تخطئ قلوبنا الطريق، نادر ما تضللنا مشاعرنا، القلب إذا سكنه الحب رأى ببصيرته التي تكون دليل له ،يهتدي به وسط العتمة، حينما يضعف بصرنا ويغيب النورعنا، نضع أيدينا فوق قلوبنا، نستجديها أن تأخذ بأيدينا إلى بر الأمان، القلوب وحدها هي من تمتلك القدرة على أن تهدي ضلالنا.

 

وصل "عمر" بصحبة "خالد" إلى منزل الجزيرة، توقفا بالسيارة بعيد عنه، هم "خالد" أن يترك السيارة قائلا:

-لا داعي لأن تذهب معي، أبقي أنت هنا ، سوف أذهب وأحضر "عشق" ونعود معا، لا أريد شئ يقع بينك وبين"مهاب"، هو الأن فى حالة غير طبيعية، أسرع "عمر" بالنزول من السيارة واقفا أمام "خالد" قائلا:

-يفعل ما يحلو له ، لن أتركك تذهب بمفردك، ولن أترك "عشق" يحضرها إلي أحد حتى ولو كان أنت يا "خالد" إن لم أذهب بنفسي، أواجه الموت نفسه من أجلها، فأنا لا أستحقها، نظر "خالد" حوله يتطلع إلى المكان قائلا:

-أعرفك وأعرف كيف هو عنادك، حسنا لنمضي كى ننهي ما جئنا من أجله، ساروا بجوار بعض ، حتى توقف "خالد" أمام سور عالى له بوابة حديدية ، فتح البواب بهدوء، دلفوا للداخل،حيث حديقة واسعة أكثر ما يميزها شجر النخيل الذي يخفي معالم المكان، وقف "خالد" ينظر حوله قائلا:

-مر وقت طويل لم أحضر إلى هنا، ولم أفكر فى ذلك من قبل ، لولا وجود "عشق" هنا، أقترب منه "عمر" قائلا:

-تتحدث وكأنك على يقين بوجودها هنا، أننا حضرنا ونحن نضع  إحتمالية  لوجودها والعكس، أنحني "خالد" يلتقط سيجارة من الأرض يشير بها إلى "عمر" قائلا:

-تلك هى سجائر "مهاب" من الواضح أنها اليوم وليست منذ فترة، ماذا سيفعل هنا ؟! إن لم يكن هناك شئ ضروري ، خاصة وهو فى تلك الظروف؟! أمسك "عمر" السيجارة من يد "خالد" فركها وألقاها أرضا يكمل عليها بحذائه قائلا:

-حسنا دعنا نذهب، لقد كادت أنفاسي تتوقف من شدة القلق عليها ، مضي "خالد" في طريقه دون كلام ، بعد مرور حوالي خمس دقائق  سير، توقفا أمام باب زجاجي كبير يطل على الخارج، رأي "عمر" "عشق" وهي جالسة بجوار "سيد" جذب "خالد" من ذراعه يشير له أن ينظر إلى الداخل، نظر لما أشار إليه، تبادل سويا النظرات ، ساروا ببطء كى لا يشعر بهم أحد، وقف "خالد" قائلا:

-من الواضح أن "مهاب" يحمل معه سلاح، هل رأيت إصابة "سيد"، زفر "عمر" فى عصبية واضحة قائلا:

-مسلح أو أعزل لن يجعلني هذا أتراجع ، سوف أذهب إليه بمفردي، وأنا كفيل به، يكفي ما حدث لها من تحت رأسه، هم أن يمضي يكسر الباب ، لولا أن أمسكه "خالد" قائلا:

-إهدأ سوف أفتح بالمفتاح الذي معي، فتح "خالد" الباب، تنظر "عشق" إلى القادم  لم تتمالك نفسها حينما رأته ، شهقت بشدة مهرولة إليه، ألقت بنفسها بين ذراعيه، ضمها إلى صدره يهدأ من روعها ، أخذ يمسح على رأسها ، ينظر إليها كمن يطمئن على طفل صغير ، إن كانت ألمت به جروح من جراء لعبه أم أنه بخير، أمسك وجهها بين كفيه قائلا:

-أنت بخير؟! هل مسك أحد بسوء؟! قبل أن تجاوبه جاءه صوت "مهاب" الجالس بأحد الأركان يشاهد ما يحدث قائلا:

- كنت أعلم أنك ستحضر، لكن بصحبة أخي؟ لم أكن أتوقع ذلك، أطمئن هى كما تراها أمامك لم يمسسها أحد بسوء ، حافظت عليها ليس حب لها أو لك، لكنها الورقة الوحيدة لدي، كي أجعلك تفعل ما أريده، نحاها "عمر" جانبا خلف ذراعه قائلا وهو يقترب ناحيته:

- من قال لك أنني سوف أخضع لطلباتك مهما فعلت؟! كنت تعتقد أن خطفك لها سوف يجعلني أتراجع عما بدأت، كل أوراقك وجرائمك صارت أمام النائب العام منذ الصباح، لا تتعجل الأمر، سوف تقول باقي طلباتك وأنت أمامه، ضحك ضحكة ساخرة وهو يشير ناحيته بالمسدس قائلا:

-ومن أخبرك أنني سوف أقف أمامه؟! أولا شركائي بالخارج قد رتبوا لي كل شئ ، وساعات وأترك مصر بأكملها ، لكن بعد أن أنهي عليك أمام عينيها ، كي تموت بحسرتها عليك، أمسكه "خالد" من تلابيب ملابسه يهزه قائلا:

- ألم يكفيك ما فعلته بنا وبأسم أبيك؟! لم يزل لديك عين تتحدث بها؟! من أى شئ أنت ؟! هل أنت بشر من لحم ودم وإحساس يُشعرك بوخز الضمير؟! أم أنك بعت كل هذا كما بعت دم أبرياء لأنك نخاس قذر؟! أشار إليه باستخفاف قائلا:

-صدقني لم أسمع كلمة مما قلت، وفر على نفسك أى كلام ،لأنه لن يجد له صدى لدى، أى ندم تريدي أن أشعربه ؟! هل أندم على ثروتي التى أصبحت بالملايين؟! أم وضعي الذى صنعته لنفسي بالداخل والخارج؟! كف أنت عن هذا الغباء الذى تحكم بك، لكن  لم أتعجب منك؟! وأنت تصادق هذا الشخص، كاد "عمر" أن يضربه بوجهه لولا أن أمسكه "خالد" قائلا:

-تمالك أعصابك ، لا تضيع هدوءك وتركيزك مع هذا الغبي، دعنا نري هذا الملقى على الأرض ينزف، إن مات سوف تزيد الجرائم واحدة جديدة ، نظر إليه "عمر" باحتقار، مقترب من "سيد" الذى بدأت قوته ترحل عنه وبدأ يفقد الوعي، جلس على ركبتيه يتحسس جبينه قائلا:

-"عشق" أن جبينه بارد جدا، أشعر أنه سيغيب عن الوعي، أقتربت منه تتحسس نبضه قائلة بذعر:

- لقد نزف دماء كثيرة، سوف يدخل فى غيبوبة،علينا أن نسعفه، قدمه هى الأخري إن لم نسعفها سوف تدخل عملية بتر، صرخ به "خالد" قائلا:

-" مهاب" أتركنا نذهب إلى المستشفى كي نسعفه ، بدلا من أن يموت وتحاسب عليه، ذهب يقف خلف الباب يغلقه قائلا:

-لن يغادر أحد من هنا، ألا بعد أن أمضي أنا ، يموت ما هو الضرر من موته؟! سوف أنظف العالم ممن هم مثله، لم يستطع "عمر" أن يصمت أكثر من ذلك ، أندفع نحوه كبركان ثائر، أمسكه من ملابسه يكيل له الضربات قائلا:

-سوف نغادر الأن دون شروط أو قيد، إن كنت رجل قف أمامي رجل لرجل، ولنري ماذا ستفعل؟! صوت عربة إسعاف ورجال كثيرة ،وصوت عربات الشرطة تملأ المكان ، تبادل الجميع النظرات، أقتربت "عشق" من "عمر" تمسك يده قائلة:

-أتركه يا "عمر" أنه أقل من أن تلوث يدك بملامسته، لم تكد تُكمل جملتها حتى امتلأ المكان برجال الشرطة الذين ألقوا القبض على "مهاب" ، حمل رجال الأسعار "سيد" تتبعهم "عشق" وقف "خالد" بجوار "عمر" الذى حضر ضابط الشرطة يصافحهما  قائلا:

-منذ خروجكما من عند سيادة النائب العام ، ونحن في أثركم حتى وصلتم إلى هنا، كان علينا أن نحافظ على سلامتكم ، سوف أرحل الآن مع رجال الشرطة والإسعاف، لأستمع إلى أقوال "سيد"، لي معكم حديث آخر، تركهما ماضيا، وقف "عمر" ينظر بإشفاق إلى "خالد" الذى بدت عليه علامات الجذع من أجل أخيه، أحتضنه دون كلام ، كان يخبره أنه معه يشعر به ، أبتسم له قائلا:

-لا تخف علي أنا بخير، لكل شيء ضريبة ندفعها يا صديقي، وأنا متقبل تلك الضريبة ، هيا بنا من هنا، ترك البيت بعد أن أغلقه "خالد" ، ماضيين وهم أكثر قرب و التصاقا.

 

 

                             

                               "الخاتمة"

 

 

دوما في الغيب حكايات، ننتظر أن يرويها لنا القدر ، يخبرنا أن من يزرع الورد يجني العطر، ومن يزرع الحنظل يجني المر، لا شيء يحدث صدفة ، كل شئ نتاج ما قدمناه، لا يظلم الله أحد ، فهو يعطي كل يد ما قدمت، النهايات السعيدة كُتبت لمن ضحى وأعطي وصبر، مهما كان الطريق صعب حتما فى نهايته جبر وجبر الله ينسينا كل شئ.

 

 

وقف دكتور "عبد الرحمن" بجوار "خالد" ينظر إلى يافطة القسم الخيري الجديد، الذى تم افتتاحه  بالمستشفى ،يحمل أسم الطفلة التى علموا بقصتها مؤخرا قائلا:

-سوف أجعل هذا القسم صدقة جارية على روح أمك يا "خالد"، أريد أن أفعل شئ كبير ،أشعر أنني كفرت به عن سوء ما فعله "مهاب"، مال على رأسه يقبلها قائلا:

-أنت لم تقصر بتربيته يا أبي، ربيتني كما ربيته تماما ، لم تفضل أحدنا على الأخر، هو من صمم أن يزكي جانب الشر بداخله على جانب الخير، من أجل المال والمكسب، لا تحمل نفسك وزر ما فعله ، الجميع يشهد لك ويشهد عليه، هيا بنا "نهال" تنتظرنا ،لكي نذهب أحجز قاعة الفرح، أم تُراك نسيت ولا تريد أن تحضر فرح أبنك؟! أبتسم له قائلا:

-أنني أكثر من يشتاق للفرح، يستجديه أن يحضر إليه، منذ زمن طويل لم أفرح ، كم أنتظر تلك اللحظة كي أنسي بها كل ما كان، أستند إليه يسيران سويا يتحدثان في أمور الفرح وترتيباته ،وقف "خالد" فجأة يضرب جبينه بيده قائلا:

-كم أنا غبي نسيت تماما موعد الليلة، وقف أبيه ينظر إليه قائلا:

-موعد ماذا الذي نسيته ؟! عقد ذراعيه فوق صدره قائلا:

-الليلة حفل توقيع الرواية الجديدة للأستاذ "يوسف مأمون" وقد أرسل لنا دعوة بأسماءنا جميعا نسيت أن أخبرك وسط ترتيبات الفرح، أكمل طريقه وهو يجذب "خالد" من يده قائلا:

-ليس هناك مشكلة فيما قلت، أذهب الأن مع خطيبتك، أنهي حجز قاعة الفرح بالفندق، وأنا سوف أنهي هنا بعض الأمور وأذهب للبيت أبدل ملابسي ، تكون أنت عدت نذهب سويا للحفل، هذا الرجل نحبه ونقدره جميعا، مؤكد سوف تكون "عشق" هناك هى من أشد معجبيه، ومن كانت سبب بعد الله سبحانه وتعالى فى إنقاذ حياته، أسرع "خالد" بالمغادرة قائلا:

-حسنا سوف أنهي ما ورائي وأعود نذهب سويا إلى الحفل، دخل دكتور

 "عبد الرحمن" مكتبه ، أغلق الباب خلفه، جلس إلى مكتبه ، أخرج بعض الجرائد القديمة التى مر على صدورها عام ، لكنه ما يزال محتفظ بها ، فتحها على صفحة بعينها ، عاد يقرأ بعينيه دون صوت عنوان يقول، سجن طبيب وصاحب مستشفى كبير خمسة عشر عاما بسبب الإتجار فى الأعضاء البشرية والأدوية الفاسدة، تنهد هامسا لنفسه:

-سامحك الله على ما فعلته بنفسك وبي ، دخل "عمر" فيلته ينادي بصوت عالي قائلا:

-داده أين أنت؟! تخرج "حسنية" من المطبخ ، تمسك منشفة تجفف بها يدها قائلة:

-أنا هنا يا "عمر"تريد مني شئ، أمسكها يجلسها على المقعد أمامه، وضع علبة كبيرة الحجم أمامها، فتحها يخرج منها فستان أسود جميل، حينما رأته شهقت قائلة:

-الله جميل جدا، لمن هذا الفستان ؟! وضعه على قدميها قائلا:

-لكِ أنتِ يا داده، أدعوا الله أن يكون على مقاسك، أنني أشتريته بأحساسي، هيا دعيني أراه عليكِ، نظرت إليه بعينين متسعتين قائلة وهي تشير إلي نفسها :

-لي أنا يا "عمر" ؟! لم كل هذه المصاريف؟! قبل رأسها وكفها قائلا:

-هذا لا يعد شئ فى كل ما قدمتيه وفعلته معي، يكفي أنك لم تتركيني بمفردي كل تلك السنون منذ رحيل أمي ، كنت أبن لك ، لم تجعليني أشعر أني بدون أمي، يكفي وقوفك بجواري في كل شدة، تحملتي معي كثيرا، مهما فعلت لن أوفيك حقك، تنهدت وامتلأت عيناها دموع دون أن تجاوبه، علم ما دار بداخلها مسح على يدها قائلا:

-أعلم فى أى شئ شرودك، ألم يكن ما حدث هو ما تمنيناه، كي يعود "سيد" من الطريق الذى يسير به؟! مرت سنة من مدة حبسه، بقي عامين ويخرج من جديد للعالم، لكنه سوف يخرج تلك المرة إنسان جديد، تعلم من أخطاء ماضية، سوف يحيا حياته من الحلال، لا تحزني من أجلي وأجله، تنتهي باقي مدة سجنه، له عندي عمله ومسكنه، أمسكت برأسه تقبل جبينه قائلة:

-يكفي أنك وقفت بجواره ودافعت عنه فى المحكمة حتى حصلت له على أقل عقوبة، يجازيك الله خير بكل ما فعلته من أجلي، جذبها يوقفها قائلا:

-لم يعد هناك وقت، هيا أذهبي وجهزي نفسك، وأنا سوف أذهب أستعد أنا الأخر، سوف نذهب سويا إلى حفل توقيع الرواية الليلة، وسوف يكون هناك مفاجأة أخرى أعددتها من أجل "عشق" أبتسمت وهي تغادر قائلة:

-رزقك الله أنت وهي بكل خير وسعادة ، أحبكم كثيرا، تعرف شئ يا "عمر" وقف أعلي الدرج ينظر إليها، عادت تقف أمام الدرج مردفة:

-أنت تشبه "عشق" كثيرا، من يراكما يعتقد أنكما توأمان جئتم من رحم واحد، نفس الملامح، نفس العينين، حتى الروح أشعر كثيرا حينما أجلس إليها أنني أجلس معك أنت ، أستمع إليك وأتحدث معك، ضحك وهو يكمل طريقه قائلا:

-ألم تُخلق من ضلعي؟! طبيعي أن تصبح شبيهة لي فى كل شئ.

 

أمتلأت قاعة الحفل بالمدعوين، كان "خالد" و"نهال" ودكتور "عبد الرحمن" فى الصف الأول، وقفت سيارة "عمر" أمام الباب فى تمام التاسعة مساء، ترجل منها يفتح الباب ، يأخذ يد دادة "حسنية"، دخلت تمسك بذراعه، ألتفت "خالد" يبحث عنه، حينما رآه قام واقفا، يحتضنه ويتحتضن "حسنية" التي فرحت لرؤيته، جلس الأثنين بجوارهما يكملان الصف، بقي مقعد "عشق" بجوار "عمر" شاغر، مال "خالد" عليه يسأله:

- أين "عشق"؟! لم لم تأتي معك؟! أقترب منه "عمر" قائلا:

-هي هنا سوف تعرف الأن لماذا لم تحضر للجلوس معنا؟! بضع دقائق وتكون هنا بجوارنا، دقت الساعة العاشرة تماما ، صعدت "عشق" فوق منصة التقديم ، ترتدي فستان طويل أزرق اللون، تاركة شعرها القصير يحتضن وجهها، برقبتها قلادة تحمل أسم "عمر" ضحك "خالد" حينما رأها قائلا:

-علمت الأن هي من أخذت شرف تقديم الحفل، هز له "عمر" ذراعيه قائلا:

-حسنا أصمت الآن دعنا نسمعها، كان الجميع صامت يتطلع بوجهها الملائكي ، يستمع إلى صوتها الرقيق، لم تكن ترى أحد سواه، تعلقت عينيها به قائلة:

-يسرني تشريفكم جميعا حفل الليلة، كم يسرني أن أنال هذا الشرف الكبير وأزف لكم ، خبر صدور أخر روايات الكاتب الكبير "يوسف مأمون"، لكن سامحوني لن أستطيع أن أخبركم أسمها، لأنني أنا نفسي لم أعرفها حتي الأن ، لقد أصر أن يحتفظ لنفسه بهذا الأسم ، ويخبرنا به بنفسه ، والأن مع الكاتب الأستاذ

" يوسف مأمون" صعد إلى المنصة يصافح "عشق" التى وقفت بجواره، بدأ كلامه قائلا:

-لن أرحب بكم لأنكم أصحاب مكان ، تلك هى الرواية التي أستفزتني أحداثها كي أعود أكتب من جديد بعد توقف حوالي ثلاث سنوات، كنت قد قررت خلالهم أن أعتزل القلم ، لكن ما كان يجري أمامي جعل قلمي ذاته يذوب على الورق من أجل أن يخرجه إلى النور، ليعلم الجميع أن على تلك الأرض حقا من يستحق الحياة، مهما حدث وملأت الشرور عالمنا ،سوف يبقى هناك شئ نقي ، يعاند ليكمل كما هو، كنت قد فقدت الأمل أن هناك من يعرف كيف يكون الحب؟! فلملمت أوراقي وتركت كل شئ جانبا، لأنني أخذت على نفسي عهد ، أن أكتب فقط للحب ومن أجل الحب، لهذا كانت تلك الرواية دعوني أريكم إياها، تطلعت العيون جميعا إلى شاشة كبيرة خلفه ، أضاءت ليظهر عليها غلاف جميل يحمل صورة لعيني "عشق" بجوار عيني "عمر" وكتب عليه رواية" عشق الراوي"، وضعت "عشق كفها فوق فمها تضحك، وقف "عمر" غير مصدق، صفق "خالد" و"نهال" حتى "حسنية" ودكتور "عبد الرحمن" ، صفقوا دون شعور بما يفعلوه، نادي "يوسف" "عمر" طالبا منه أن يصعد ، صعد "عمر" يضمه، وقف يمسك بيده ويد "عشق" مردافا:

-دعوني أقدم لكم هذان العاشقان، وأقدم لهما شكر وامتنان ، على ما قدموه لي دون قصد وما علموني إياه ، بأنه هنا وفى كل مكان على تلك الأرض قلوب الثمن الوحيد لها هو الحب، أخرج "عمر" من جيبه خاتم الزواج وضعه بيد "عشق" قائلا:

-لم أجد فرصة أجمل من تلك وجميع من نحبهم هنا معنا ، كي أعترف لكِ من جديد أنني ولدت علي يديك وأن الله خلقني فقط من أجل أن أحبك ، صعد الجميع إلى المنصة يحتضنهم ، يهنئونهم ، أخذ "عمر" "عشق" من يدها ،تاركين المكان ذاهبين إلى النيل، فى نفس المكان الذي تقابلا به أول مرة ، نظرت إليه قائلة:

-أريد أن أخبرك سر ، نظر إليها بعينيه مستفهما، أبتسمت وهى تنظر بكل قطعة بوجهه قائلة:

-أريد أن أخبرك أنني أحبك جدا  وأنني دونك لا شئ، أخذها تحت ذراعيه، قائلا:

-دعينا نري الشمس لكن تلك المرة كي أخبرها أنني ربحت.

 

 

                            -تمت بحمد الله- 

 

   

 

 

إحصائيات متنوعة

المدونات العشر الأولى طبقا لنقاط تقييم الأدآء 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية) 

الترتيبالتغيرالكاتبالمدونة
1↓الكاتبمدونة نهلة حمودة
2↑1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب
3↑2الكاتبمدونة محمد شحاتة
4↓الكاتبمدونة اشرف الكرم
5↓-3الكاتبمدونة ياسمين رحمي
6↑4الكاتبمدونة حاتم سلامة
7↓-1الكاتبمدونة حنان صلاح الدين
8↑1الكاتبمدونة حسن غريب
9↓-2الكاتبمدونة ياسر سلمي
10↓-2الكاتبمدونة آيه الغمري
 spacetaor

اگثر عشر مدونات تقدما في الترتيب 

(طبقا لآخر تحديث تم الجمعة الماضية)

#الصعودالكاتبالمدونةالترتيب
1↑25الكاتبمدونة نورا شوقي200
2↑19الكاتبمدونة رشيد سبابو212
3↑17الكاتبمدونة محمد جاد78
4↑14الكاتبمدونة غازي جابر67
5↑9الكاتبمدونة خالد دومه30
6↑9الكاتبمدونة شيماء عصام124
7↑8الكاتبمدونة احمد كريدي98
8↑8الكاتبمدونة نجلاء محجوب142
9↑7الكاتبمدونة محمود سليمان (الشيمي)158
10↑6الكاتبمدونة مها الخواجه29
11↑6الكاتبمدونة سعاد سيد187
 spacetaor

أكثر عشر مدونات تدوينا

#الكاتبالمدونةالتدوينات
1الكاتبمدونة نهلة حمودة1069
2الكاتبمدونة طلبة رضوان769
3الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب690
4الكاتبمدونة ياسر سلمي652
5الكاتبمدونة مريم توركان573
6الكاتبمدونة اشرف الكرم568
7الكاتبمدونة آيه الغمري496
8الكاتبمدونة فاطمة البسريني424
9الكاتبمدونة حنان صلاح الدين417
10الكاتبمدونة شادي الربابعة402

spacetaor

أكثر عشر مدونات قراءة

#الكاتبالمدونةالمشاهدات
1الكاتبمدونة محمد عبد الوهاب330690
2الكاتبمدونة نهلة حمودة186888
3الكاتبمدونة ياسر سلمي178539
4الكاتبمدونة زينب حمدي168931
5الكاتبمدونة اشرف الكرم127969
6الكاتبمدونة مني امين116116
7الكاتبمدونة سمير حماد 106367
8الكاتبمدونة فيروز القطلبي97322
9الكاتبمدونة مني العقدة93888
10الكاتبمدونة مها العطار87400

spacetaor

أحدث عشر مدونات إنضماما للمنصة 

#الكاتبالمدونةتاريخ الإنضمام
1الكاتبمدونة عبد الكريم موسى2025-06-15
2الكاتبمدونة عزة الأمير2025-06-14
3الكاتبمدونة محمد بوعمامه2025-06-12
4الكاتبمدونة محمد عسكر2025-06-04
5الكاتبمدونة عبير سعد2025-05-23
6الكاتبمدونة هاله اسماعيل2025-05-18
7الكاتبمدونة اريج الشرفا2025-05-13
8الكاتبمدونة هبه الزيني2025-05-12
9الكاتبمدونة مها الخواجه2025-05-10
10الكاتبمدونة نشوة ابوالوفا2025-05-10

المتواجدون حالياً

1392 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع