الفصل الثامن
"ما وُجدت الثانوية العامة إلا لتكسر قلوبًا شابة، ما وُجدت إلا لتصنع ذكريات سيئة لأشخاص لا ذنب لهم في الحياة إلا أنهم يحلمون"
هكذا كانت كتابات البعض على مواقع التواصل، صراخ وعويل من طلاب وطالبات وأولياء أمور، القليل رضى بنتيجته والكثير غاضب لأن ما حصل عليه أقل بكثير مما يستحق.
أما آلاء كانت صدمتها كبيرة، لا تستطيع أن توقف دموعها، ذبلت عيونها الجميلة، دخلت ونشرت:
ظهرت نتيجة الثانوية العامة لكن نتيجة تعبي لم تظهر بعد!
وظلت تبكي أيام وليال طويلة، لا تصدق أن حلم العمر مات وتحول لسراب، دخلت ونشرت مرة أخرى بصفحتها:
" ما رأيتُ شعورًا أثقل مِن أن يضيعَ حُلمك تحت مُسمَى الظُّلمِ، فتشرع في البحث عن حلمٍ جديدٍ وتبدأ بإقناع نفسك به، وكُلّه خارج إرادتك، خارج إرادتك والله! راضٍ يا الله رغم أنّ قلبي ينزف دمًا! "
أنها لا تصدق رسوبها في مادة الأحياء - المادة الوحيدة التي خرجت وهي متأكدة من الحصول على الدرجات النهائية- متأكدة من حلولها التي راجعتها مع معلم المادة فور خروجها من الامتحان، سوف تعيد الأمر من مذاكرة وسهر وتعب، حتى تدخل الامتحان بعد أسبوعين من الأن، بدلا من الاستعداد لدخول الجامعة.
ووسط عتمتها وجدت آلاء الرفقة الصالحة، لم تتركها صديقاتها ولا زويهم، اتصالات كل يوم للسؤال عنها، ورسائل منهن:
عوضكِ الله خيرًا مما تمنيتِ، وهون عليكِ حزنكِ بفرحة مستبشرة، تبتهجين بها عمرك كله.
ورغم أن صديقتها المقربة رزقها الله بأعلى الدرجات ستكون طبيبة بإذن الله، رغم شدّة فرحتها إلا أنها لم تغفل عنّها أبدًا، لا برسائل التهدئة والمواساة أو بالدعاء، الحزن في قلبها لأجل آلاء. وفي مجموعة آلاء الخاصة توالت الرسائل بالدعوات لها:
هون الله عليكِ وربط على قلبكِ وجبركِ وعوضكِ خيرا منه، تذكري قصة أم سلمة حينما مات زوجها ذكرتها أخت بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرا منها، فقالت وهل هناك خيرا من أبي سلمة ثم استرجعت وظلت تكرر الدعاء فأبدلها الله أبو سلمة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت في جلسة مع بعض نساء فذكرت القصة وكأنها لا تصدق وهل بعد النبي أو قبله أحد.
لا تحملي نفسك مالا طاقة لها به ولا تمزقي نياط القلب، ذاك المسير كله لله والله أعلم بعباده منهم، وثقي أن الله عادل حكيم وأن الله اختار لكِ طريقا للمسير قبل حتى أن تأتي من رحم أمك. والله لو سردت لكِ كم حلما لي قُتل وكم حقا غُصب؛ لبكيتِ لي بدلا عنكِ، ولكن الله أعلم بنا ولعله بلاء تطهير ودعوات أُجلت لكِ لميقات يوما عظيم، أسعدك الله غاليتي.
سيذكر التاريخ أنّهم كانوا صُحبةً يجمعوا شمل بعضهم.
بينما أحدى صديقات آلاء ارسلت رسالة تنص على:
قدر الله و ما شاء فعل، لا استطيع استيعاب ما يحدث، ولا أعلم لماذا يواسيني الناس؟!، أحد المدرسين يقول لي: كنت انتظر سماع اسمك من أوائل الجمهورية بعد كل مجهودكِ! كل الناس مصدومة وحزينة على تعبكِ والكل لا يصدق و يتوقع أن هناك خطأ.
توالت التعليقات وردود الأفعال من الطالبات في المجموعة وعلى صفحات الفيس بوك:
(أصعب سنه مرت عليّ، ضغط و مشاكل من كل اتجاه خسرت فيها نصف الناس من حياتي و كل يوم خيبات أمل أبشع من قبلها، سنة تعبت فيها أشد التعب نفسيا وصحيا، ارتديت نظارة و تعبت أعصابي، أشياء تحتاج فترة طويلة للتعافي منها، الحمد لله على كل حال، أنا راضية تمام الرضا عن مجهودي و ربنا موجود وسيجازيني على هذا الصبر، وعلى كل مرة كنت منهارة فيها وعانيت من الخنقة والبكاء، ورغم ذلك كنت أذهب إلى الدروس وأنصح وأساعد وأوجه. واشرح لهن، ويشهد الله أني ما فضّلت نفسي على أحد. و دائماً الأهم عندي راحة الكل حتى لو كان على حساب نفسي و راحتي، كنت أواجه الدنيا والأمور الصعبة دون شكوى، حرمت نفسي من السفر والتنزه ومن كل ما أحب، و طوال السنة تعب ومجهود لتحقيق أحلامنا. لكن للأسف الأحلام هُدمت وأنا فوضت أموري لربي و راضية و متأكدة أنه كتب لي الخير. والله أني لو خيرت لاخترت اختيار الله. رب الخير لا يأتي إلا بالخير حتى لو غلبنا الحزن ولم نفهم الحكمة من قدر ربنا).
ورغم حزنها كانت تواسي زميلاتها، آلاء وغيرها.
بينما عائشة كانت حزينة أيضا دخلت لترى نتيجة أحمد قبل نتيجتها فقد حصل على ٩٠٪ وسيدخل كلية الهندسة كما تمنى، بينما هي رسبت في مادتين وستدخل دور ثاني، انهارت وبكت و حضرت جاكلين إليها، تواسيها فقد تابعت مع طبيب نفسي وتماسكت قليلا، فالوضع لم يختلف كثيرا فقد حصلت على ٦٦٪، عمّ الحزن والألم والبكاء.
توالت الأحزان بانتحار بعض الطلاب والطالبات حزنا وألما، وانهيار الكثير من الطالبات والأهالي، أحلام تحولت لكوابيس وجراح تُدمي، خيم اليأس على الحياة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي رسائل تنم عن اليأس والإحباط الذي أصاب الجميع
الكل حزين حتى من لا يهمه الأمر، لا يهم أن يكون لك ابن أو ابنة في الثانوية العامة لتحزن، الكل أصابته لعنة اليأس ومشاعر الألم!
في مرسى مطروح، كانت سعادة البعض بالنتيجة رغم قلة المجموع، وسعادة سناء وسلمي بحصولها على ٨٨٪، فقد كانت في الشعبة الأدبية حسب رغبتها، لم تجبرها والدتها أو والدها على شيء، فحبها الشديد لعلم النفس والفلسفة، جعلها تتمنى أن تلتحق بكلية الأداب، كان خالد معهم عندما استأذنت سناء لتُحدث صديقتها المقربة ندى هاتفيا.
على الجانب الآخر للهاتف ندى:
- ماذا تقولي يا سناء؟! خالد زين الدين! همهمت بالبكاء وهي تهاتف صديقتها، التي تخبرها بمرض خالد.
ندى، هي الصديقة المقربة لسناء، يتبادلان الأحاديث الطويلة بحب وود، بعد أن فقدت ندى كل أسرتها، رحل والديها، وتفرق شمل العائلة ودب العداء والكره بين الأخوة، أصحبت سناء وطنا لها، تسمعها وتخفف عنها وتشد عضدها،
ترددت سناء في الحديث عن خالد، ولكن ندى على وصول هي وزوجها وابنها، فلا تريد أن تتفاجأ به هنا.
دموعها تتساقط وهي تسمع من سناء ما حل به، لم يكن خالد بالنسبة لها زميل، كان حب عمرها وحلم حياتها، تحفظ عن ظهر قلب كل خطواته وصفاته، تعرف عنه أكثر ما يعرف أقرب الناس عنه، تحبه كما لم يحبه أحد غيرها! في المدرسة الثانوية المشتركة في مدينتهم، كانت تنتظره كل يوم، وتتطلع إلى باب المدرسة بشغف ولهفة، فهو يأت متأخرا كعادته، فلم يحضر طابور الصباح ذات يوم، تطمئن عليه، وتدخل فصلها بسعادة غامرة، خالد هو أحلامها التي عاشت فيها راضية، هو حبها الأول الذي كُتب عليه أن يموت قبل أن ُيولد؟! كانت تحلم له وتدعو له أكثر من دعائها لنفسها، تفرح لنجاحه وتفوقه، وتتألم لتعبه وألمه، فلماذا تبكي الأن؟! هل ما زالت تحبه؟!، أم أن حنانها وقلبها ألمه ما حل به، خالد الذي تمنته يوما زوجا وحبيبا ورفيقا، الذي عاشت معه كل أحلام الطفولة والمراهقة، رغم أنهما لم يتحدثا أبدا! كان حب من طرف واحد، من قلب واحد كان مستعد أن يعطي بلا مقابل، أن يضحى بحياته لأجل من يحب، خالد الحلم البعيد ورفيق القلب، عاشت معه سنوات عمرها، كانت تحكى له كل شيء وتتحدث إليه في أحلام يقظتها، سنوات دون ملل أو كلل.
جهز زوجها السيارة ودخل ليجدها، وسط دموع لا تتوقف، هاله ما آل له حالها، فسأل متعجبا عما حدث، لكنها عللت دموعها، برسوب ابنة صديقة لها في الامتحان!
تتساءل هل هذا امتحان لها أم معاناة لقلبها؟! كيف ستقابل خالد؟! هل ستتحمل رؤيته بحالته هذه؟! كيف لقلبها أن يتحمل ألمه وعذابه، طالما دعت له بسعادة لا تنتهي، تمنت لو أعطته كل سعادة العالم، رغم أنها لم تمتلكها! كانت تدعو ألا يذيقه الله مثل ألمها وحزنها أبدا!
وصلت ندى مرسى مطروح، لأول مرة تتاح لها فرصة السفر لهذا المكان الساحر، تمنت الاستمتاع بجمال الطبيعة وسحرها، خاصة وهي عاشقة للجمال وصوره، وكانت تأمل في هذه الرحلة أن تعود للكتابة بعد توقف شهور، فأن لها مدونة على مواقع التواصل للكتابة ويتابعها عدد كبير. لكن حزنها الشديد على خالد، أثر عليها ولم تتمتع بما ترى، حدثت نفسها و تساءلت: لماذا قدري أن أُحرم من السعادة دائما؟! وأُحرم من الراحة والاسترخاء. لا تدري لما هاجمتها الذكريات بشراسة؟! فماذا عندما تراه؟ هل ستقوى على مواجهته؟! طالما هربت من أي مكان يجمعهما، كلاهما تزوج واختار حياته، لا شيء ربطهما من قبل ولا شيء سيربط بينهما مستقبلا.
لكن مشاعرها مضطربة؛ يداها ترتجف لمجرد سماع اسمه. أغمضت عيناها محاولة الهدوء.
- يارب ماذا أفعل؟! هكذا تردد ندى وقلبها تعلو دقاته، وأنفاسها تكاد تتوقف!
تذكرت كلمات طبيبها النفسي:
-"التفكير الزائد، يسرق منك حياتك، سعادتك، وابتسامتك، هوني على نفسك."
ظلت تتحدث إلى نفسها: يارب قويني على ما هو أت، لم أكن أحبه! بل كنت غارقة فيه، أخاف أن أعود لبحر الظلمات من جديد، في الماضي ضيعت عمري في التفكير فيه والشوق له، في الأحلام السرابية التي سرقت عمري، بالغت في حبي له، بالغت في خوفي وقلقي عليه، لن أسمح له أن يحتلني من جديد، لست ضعيفة، لم أعد تلك الهشة التي تذوب فور ظهوره، لم أعد الفتاة الساذجة التي تتمنى قربه، وتخاف لقائه!
أنا قوية وناضجة. نعم .. نعم .. فلنواجه!
ظلت تردد لنفسها تلك الكلمات لتقوى روحها الهشة! وتمنع دموعها الحائرة في عيونها من السقوط. لكنها في النهاية قررت الهرب، فلا تمتلك الجرأة والقوة على رؤيته!
هي لا تحبه لكنها خائفة، أن يبدو حزنها عليه، أن تبكيه على مرآى الجميع، أن تضمه لتحمل عنه الألم، خائفة أن تعود لدوامة بالكاد خرجت منها، أو لنقل خرجت بما تبقى منها! حبها له استهلكها، فلم تعد لديها ما تمنحه للآخرين، حتى نفسها لم تنل حبا منها، فقد منحته كل الحب والأحلام والأماني، حتى الحلم منعت نفسها منه، منذ أن أعلن خطبته على من أحب، بكته كثيرا وتمنت له كل السعادة معها، ولكنها وعدت نفسها ألا تفكر به، قفلت قلبها وأوصدت أبواب روحها أمام الجميع.
حاولت مرات عديدة أن تحب غيره، فلم تكمل في أي قصة، أصابتها اللعنة فلم تعد له أو لغيره، ما عادت صالحة للحياة بعده، فقد أخذ قلبها وروحها معه، وظل جسدها بلا حياة، عافرت وعاندت وتزوجت لترضي الجميع، ولكنها دُفنت حية، فما أصعب أن تعيش دون قلب، أن تمنح جسدك لشخص لا تحبه ولا تراه أبدا.






































